آفاق جديدة للتمويل الإسلامي
ارتفع حجم التمويلات الإسلامية المقدمة من البنوك الخليجية الإسلامية في دول الخليج حققت نمواً وارتفاعاً كبيراً خلال الفترة من سبتمبر عام 2008 وحتى نهاية أغسطس عام 2009. إذ ارتفعت أصولها إلى 38 مليار دولار قياساً بالأعوام السابقة، أي ما نسبته 45في المئة من إجمالي القروض المقدمة من البنوك العاملة داخل دول مجلس التعاون الخليجي بما فيها المحلية والإقليمية والأجنبية والذي بلغ مجموعها 84.87 مليار دولار، في حين بلغ حجم تمويلات البنوك الأجنبية العاملة في المنطقة 46.96 مليار دولار.
فقد حلت دولة الإمارات العربية احتلت المرتبة الأولى خليجياً حيث بلغ حجم تمويلاتها ما قيمته 24.57 مليار دولار وهو ما يمثل نسبة 29في المئة من إجمالي التمويلات المقدمة، بعد ذلك تلتها المملكة العربية السعودية بحجم تمويل بلغ 4.54 مليار دولار أي ما نسبته 5 في المئة، ومن ثم جاءت دولة قطر في المرتبة الثالثة بتمويلات بلغت قيمتها 3.55 مليار دولار وهو ما يمثل نسبة 4 في المئة، ثم حلت دولة الكويت رابعة بما قيمته 3 مليارات دولار أي ما يعادل نسبة 3.5في المئة، فيما جاءت دولة البحرين في المرتبة الخامسة بحجم تمويل بلغ 250 مليون دولار بحصة 1في المئة فقط من الإجمالي، وذلك تماشياً مع ما تشهده المصارف الإسلامية في دول الخليج من نمو استراتيجي إسلامي يستهدف تنويع مصادر الاستثمار والدخل.
وفي الوقت ذاته يحذر خبراء المصارف في البنوك التقليدية من التوسع العشوائي في الإقراض، إلا أن المصارف الإسلامية الخليجية تتجه إلى زيادة الإقراض لتحقيق الازدهار والنمو في قطاع التمويل المالي الإسلامي خاصة في السنوات الأخيرة والتي تقدر الزيادة السنوية فيها بنسبة تصل إلى 20في المئة سنوياً قياساً بنمو البنوك التقليدية التي لم تتجاوز 10في المئة في السنة وذلك بما تشهده هذه المصارف الخليجية الإسلامية من تنوع في مصادر الدخل والاستثمار، وأعتقد أن أسباب هذا النمو والزيادة في التمويل المقدم من المصارف الخليجية الإسلامية يرجع إلى عدة عوامل:ـ منها إقبال المصارف الخليجية الإسلامية على التمويل العقاري والذي ساهم مساهمة كبيرة في نموها ويعتبر دخول المصارف الخليجية الإسلامية في القطاع العقاري من خلال تقديم التمويلات اللازمة مساهمة كبيرة في دعم الأنشطة العقارية من جهة وتخفيف أعباء المعيشة عن الناس من جهة أخرى حيث إن المصارف الإسلامية في دول الخليج بشكل عام تركز على التمويل العقاري كأحد أهم مصادر الدخل التي تدر أرباحاً جيدة وتنظر المصارف الخليجية الإسلامية إلى التمويلات العقارية على أنها تمويلات مؤمنة تماماً وبعيدة عن كثير من المخاطر المباشرة وذلك لوجود أصول حقيقية وعينية تدعم هذه التمويلات.
كما أن الصكوك الإسلامية تعتبر أحد الأسباب التي تدعم نمو وزيادة التمويلات لجميع المصارف الإسلامية الخليجية والتي تستخدمها المصارف الإسلامية الخليجية في تمويل المشاريع المختلفة حيث تعتبر الصكوك القطاع الأكثر ظهوراً والأسرع نمواً وتأتي الصكوك في مجموعة كبيرة من الصيغ والمنتجات الإسلامية التمويلية المهمة التي تغطي معظم الاحتياجات المرغوبة من قبل المتعاملين فيها حتى من غير المسلمين ـ حسب التقارير الواردة عن المصرفية الإسلامية واستطاعت هذه الصكوك اقتحام الكثير من الأسواق الإسلامية وغيرها والدخول فيها.
إن دعم ودخول حكومات دول الخليج كشريك فعال في تأسيس المصارف والبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية الخليجية ساعد في قوتها ونموها وأسس لها ضمانات قوية وصلبة ومتينة، كما أن توفر السيولة لدى المصارف والبنوك الخليجية الإسلامية كان سبباً في تجنبها الكثير من المشاكل والمخاطر حيث قامت حكومات دول الخليج بضخ الأموال الضخمة في مصارفها وبنوكها الخليجية منذ بداية الأزمة مما جعلها تتمتع بسيولة عالية وصلبة ضد الصدمات الخاصة بالتمويلات المصرفية، إضافة إلى النمو الذي تشهده الودائع في المصارف الخليجية الإسلامية، فالكثير من العملاء في دول الخليج لجؤوا منذ بداية الأزمة إلى التعامل والإيداع في المصارف الخليجية الإسلامية كاستثمار مضمون لأموالهم بدلاً من أي استثمار آخر، كذلك الكثير من الأموال المهاجرة عادت ووجدت في المصارف الإسلامية الخليجية ضماناً أكبر نتيجة للتخوف من أوضاع البنوك التقليدية في الأسواق العالمية. كما أن التعثر في القروض الاستهلاكية والسكنية والتجارية من قبل المصارف الإسلامية يعتبر محدوداً جداً نتيجة لكونها قروضاً مضمونة بضمانات عينية وحقيقية وملموسة مثل العقار والأسهم والرواتب وهو ما يجعل الوضع آمناً، فمثلاً، الموظفون الحكوميون يشكلون الجانب الأكبر من المقترضين وبما أن الوظائف الحكومية في دول الخليج مضمونة فإن التعثر في سداد تلك القروض كان محدوداً.
ومن المتوقع أنه على الرغم من انخفاض أسعار النفط فإن دول الخليج ومن خلال الاحتياطيات المالية المتوافرة لديها من الأعوام السابقة لديها فوائض كبيرة سوف تساعد على زيادة الإنفاق العام وطرح مجموعة من المشاريع خاصة بتطوير البنى التحتية وهو ما يمكن أن ينعش الاقتصاد وسوق الإقراض، حيث إن مصارف دول الخليج لديها محفزات اقتصادية كبيرة سوف يكون لها دور كبير بإذن الله في تفعيل تلك المحفزات حيث تستطيع أن تقوم بدورها على أكمل وجه في المستقبل، وأكثر ما يواجه المصرفية الإسلامية من عقبات هو عدم توافر الخبراء والمراقبين الشرعيين والموارد البشرية المؤهلة لمواجهة النمو الكبير في المصرفية الإسلامية لذا لعبت المصارف الإسلامية الخليجية منذ نشأتها دوراً مهماً في دعم شتى مجالات التدريب والتعليم بجانب تشجيع مساهمة القطاع العام والخاص من أجل الوصول إلى التنمية الشاملة حيث أصبح القطاع المصرفي الإسلامي مصدرا رئيسيا للتنمية الاقتصادية في دول الخليج وذلك من خلال دعمه لمشروعات المجتمع والتعليم والصحة وتقديم المساعدات في جهود الإغاثة الدولية للكوارث والحروب والالتزام بقانون دعم العمالة الوطنية وتشجيعها على العمل في القطاع الخاص وتفعيل برامج هيكلة القوى العاملة ودعمها للمصارف والبنوك المحلية التي تعمل وفقاً للشريعة الإسلامية، إن وضع المصارف والبنوك الخليجية ممتاز جداً للقيام بالدور المطلوب منها لأن رؤوس أموالها كبيرة جداً وتفوق المطلوب منها، حيث إن متوسط رؤوس أموال المصارف والبنوك لدول الخليج يصل إلى 16 في المئة بينما المطلوب في بازل 2 إلى 9 في المئة فقط، حيث أصبحت المصارف الإسلامية الخليجية أفضل بكثير من مثيلاتها التقليدية فهي ذات نمو وقيمة كبيرة.
فعلى سبيل المثال، إن مصرف الراجحي السعودي أكبر من دويتش ينك ـ حسب ما صدر عن تقرير اقتصادي تحدث عن النمو الحاصل في القيمة السوقية للمصارف الإسلامية الخليجية في الوقت الحالي والفترة من سبتمبر 2008 وحتى نهاية تداولات يوم أمس، حيث جاء مصرف الراجحي السعودي في مقدمة المصارف الخليجية الإسلامية في القيمة السوقية الحالية متفوقاً على بنك الكويت الوطني وكثير من البنوك العالمية، هناك عدة عوامل جعلت القيمة السوقية للمصارف الخليجية الإسلامية تكون أقل تأثرا في الأزمة المالية العالمية لأن المصارف الخليجية الإسلامية تعمل على الاعتماد على السوق المحلية على عكس البنوك التقليدية العالمية التي توسعت في عمليات الإقراض في أكثر من دولة على مستوى العالم ولذلك فإن تأثير الأزمة عليها يبقى أقل بكثير، فمستوى التعثر في سداد القروض على مستوى دول الخليج ما يزال أقل من الكثير من الدول، كما أن البنوك الخليجية الإسلامية لم يطلها ما طال الكثير من البنوك التقليدية من تأثر مباشر بأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأميركية.
ومع هذا تظل الحاجة قائمة إلى بعض الإجراءات الإضافية لتدعيم وضع المصارف الخليجية خلال الفترة المقبلة فيما يتعلق بتنويع مصادر مواردها المالية وبعض الإجراءات الإضافية لأن موارد الأموال للمصارف والبنوك الخليجية تأتي إما من بنوك خارجية أو من الودائع أو من أسواق المال، لذا نحن في حاجة إلى تسهيل الإجراءات من قبل هيئات أسواق المال في جميع الدول الخليجية لتسمح للمصارف والبنوك الإسلامية بإصدار صكوك أو سندات أو أي منتجات إسلامية حديثة وبالتالي لا تعتمد على الودائع فقط حيث تتسابق جميع الدول بما فيها الدول الغربية إلى جذب صناعة الصيرفة الإسلامية التي يتوقع أن ترتفع أصولها العالمية لتكسر حاجز (1,5 تريليون دولار بحلول العام 2010 قياساً بـ 800 مليار دولار في عام 2008) ، كما أن قيام البنوك التقليدية بفتح نوافذ خاصة لتقديم خدمات الصيرفة الإسلامية دليل على الطلب المرتفع من قبل المستثمرين لما أثبتته هذه الصناعة من نمو وتنوع وقدرة على تحدي العقبات.
إن دخول البنوك التقليدية العالمية إلى مجال الصيرفة الإسلامية سيوفر منافسة تخدم السوق التي لن تتأثر سلباً كونها كبيرة ولاسيما من حيث السيولة المتوافرة وحجم المشروعات، ويلاحظ أن الكثير من الدول الغربية تسعى لأن تصبح وجهة رئيسية لاجتذاب خدمات التمويلات المصرفية المطابقة لأحكام الشريعة الإسلامية والتي تضاعفت حول العالم ثلاث مرات خلال العقد الأخير، وأوضحت تقارير حول التمويل الإسلامي في الدول الغربية أعدتها (مؤسسة الخدمات المالية الدولية) أن العاصمة البريطانية لندن لديها اهتمامات لاجتذاب التمويلات الإسلامية أبرزها وجود المصارف الإسلامية والنوافذ التابعة للبنوك التقليدية، حيث يوجد في بريطانيا 3 مصارف متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية وهي (المصرف الإسلامي البريطاني) و(المصرف الأوروبي للاستثمار الإسلامي) و(بنك لندن والشرق الأوسط) إضافة إلى عدد من البنوك التي تقدم الخدمات الإسلامية ووجود سوق ثانوية في الصكوك الإسلامية بتعاملات تصل قيمتها إلى ملياري دولار شهرياً إلى جانب سوق لخدمات الرهن العقاري والتعاملات اليومية في السلع عبر بورصة لندن لإدارة الأصول وفق الشريعة الإسلامية حيث إن هذه المصارف تخدم أكثر من مليوني مسلم في البلاد، حيث قامت بورصة لندن بإنشاء مؤشر «داو جونز إسلامي» لقياس حجم التعاملات على الأوراق المالية الإسلامية (الصكوك) وفقاً للشريعة الإسلامية، وتبحث فرنسا عن إجراء تعديلات مالية وقانونية تتيح للمؤسسات المالية مزاولة أنشطة التمويل الإسلامي في البلاد من خلال خلق البيئة المناسبة، كما بدأت الحكومة اليابانية بإدخال تعديلات على قوانينها المالية والمصرفية ينتظر العمل بها في غضون الأشهر القادمة لتكييف معاملاتها بما يحقق اجتذاب التمويل الإسلامي واستيعابه، وتأمل طوكيو أيضاً في أن تنضم إلى مجموعة الدول المتنافسة في هذا المجال سعياً إلى أن تصبح محوراً للتمويل الإسلامي.
وتوضح التقارير أن التوجه العالمي نحو الصيرفة الإسلامية لا يأتي حباً في الصناعة واقتناع هذه الدول بها، بل جاء بهدف البحث عن السيولة التي تعاني المصارف العالمية والبريطانية من شحها وتتزايد وتنمو في الدول النفطية الخليجية، لذا على الدول الخليجية والإسلامية بذل المزيد من الجهود من أجل نشر المبادئ الخاصة بالأدوات المالية المصرفية الإسلامية والتعريف بها في الأسواق غير الإسلامية، حيث إنها تنسجم مع فطرة الإنسان في السعي إلى ما هو صالح، إضافة إلى ما يتميز به التمويل الإسلامي عن التقليدي من شروط منها أن تكون التعاملات قائمة على أصول حقيقية وعينية وكذلك المشاركة في المخاطر، إن مؤسسات التمويل الإسلامي والمصارف الإسلامية الخليجية في حاجة إلى الاستفادة من تجارب الخدمات المصرفية التقليدية العالمية لكي تواصل التقدم والازدهار وتعزيز المكانة العالمية للتمويل الإسلامي.
لذا يجب التركيز على مزيد من الشفافية والإفصاح وتيسير الوصول إلى المعلومات الحقيقية التي تزيد من نمو الأسواق الإسلامية، ومن الأمور التي ينبغي توفيرها في الدول الإسلامية الخليجية هي المؤسسات التعليمية والمعاهد المتخصصة بالتدريب على خدمات التمويل الإسلامي وذلك بهدف ضمان وجود رأسمال بشري يمتلك الكفاءات والمهارات الكفيلة بتطوير القطاع وضمان تفوقه، وفي الختام لا بد للمؤسسات المالية الإسلامية الخليجية من السعي إلى توحيد معايير التعاملات بما يسهم في توسعة نطاقها في مختلف الأسواق الإسلامية وعلى مستوى العالم. لذا على السلطات النقدية والجهات المعنية في دول الخليج التنبه إلى ذلك من خلال إعادة النظر بالتشريعات والأنظمة وتسهيلها وإعطاء المؤسسات المالية والمصارف الإسلامية الفرصة والأولوية للدخول في مشروعات البنية التحتية والبناء الأخرى المتعلقة بالتنمية الاجتماعية، كما عليها التنبه إلى محاولات الغرب بسحب هذه الصناعة إلى أسواقها أي بالانفتاح من جهة تصدير الخدمات والمنتجات الإسلامية مع المحافظة على بقاء منطقة الخليج منبعاً رئيسياً لهذه الصناعة بهدف توطين رؤوس الأموال وجذب المزيد منها والاهتمام ببرامج التدريب والتأهيل وتجهيز الكوادر البشرية وإعداد الخبراء الشرعيين الذين يشكلون الهم الأكبر للصيرفة الإسلامية وطرح خدمات جديدة أكثر تطوراً وأكثر مرونة وتأسيس صناديق استثمار والاستثمار في الطاقة وغيرها من المنتجات وصيغ التمويل الإسلامية الجديدة في الأسواق المحلية والدولية.
كما وينبغي العمل على تنويع الاستثمارات لتشمل قطاعات أخرى مما يسهم بدوره في الحد من المخاطر، وكذلك تضافر جهود المختصين والعاملين والمهتمين بالقطاع المصرفي الإسلامي من أجل ضمان استمرار تطوره وازدهاره ويمكن تحقيق ذلك من خلال التركيز على المجالات التي تلقى قبولاً واسعاً مثل الصكوك والتمويل العقاري والسكني والعمل على تنشيط آلية الطلب علية لأنه يدفع المستثمرين إلى التوجه نحو مزيد من الاستثمار في القطاع العقاري، لذا على المصارف الإسلامية وشركات التمويل العاملة في الخليج طرح برامج القروض السكنية والتوسع في الإقراض التمويلي العقاري للأفراد والمؤسسات والشركات للاستفادة من سوق ضخم تتجاوز الاستثمارات فيه 250 مليار دولار حتى العام 2010 ـ حسب إفادة بعض التقارير الاقتصادية.
إن القطاع المصرفي الخليجي اجتاز مرحلة ما هو أسوأ، وذلك نتيجة للدعم الحكومي الذي قدم له من طرف البنوك المركزية في جميع الدول الخليجية، ويمكن للهيئات التنظيمية والحكومات الخليجية القيام بدور حيوي أكبر من خلال صياغة أُطر تنظيمية تسهم في تعزيز نمو وازدهار قطاع التمويل الإسلامي الخليجي المقدم من المصارف الإسلامية في دول مجلس التعاون الخليجي والمستقبل سيكون إن شاء الله مشرقاً للصيرفة الإسلامية الخليجية وسائر البلاد الإسلامية .