«سابك» وجودة القرار الاستراتيجي
تُعد ''سابك'' منذ إنشائها عام 1976 من اللبنات الرئيسة للاقتصاد الوطني؛ ومن الداعمات المهمة التي قامت عليها استراتيجية تنويع الدخل الوطني خلال الخطط التنموية الخمسية الأربع السابقة. ولا تكمن أهمية ''سابك'' بالنسبة للاقتصاد السعودي فقط في حجم رأسمالها المدفوع أو قيمتها السوقية أو أرباحها السنوية, لأنها قامت على استثمارات كبيرة في البنية التحتية أقامتها الدولة بتكاليف تتعدى 30 مليار دولار في مدينتي الجبيل وينبع؛ ولأنها الشركة التي حظيت منذ إنشائها إلى وقت قريب بإدارة حصيفة وحريصة وموفقة أيضاً.
تلك الإدارة كانت وبشكل عام تتحوط بالرجوع إلى أكثر من رأي قبل الشروع في أي مشروع أو القيام بأي صفقه، وهذا الأسلوب وإن كان يزيد من التكاليف الإدارية والمالية للشركة إلا أنه كان يوفر المليارات للشركة على المدى الطويل، بدلاً من التعجل بقرارات سريعة وغير مراجعة بشكل علمي حصيف. لقد كانت هذه الإدارة في حال وصول المستشار الرئيسي إلى قرار أو رؤية محددة ، تراجع هذا القرار أو الرؤية باستشارة مستشارين آخرين لأخذ آراء إضافية ربما تكون ذات رؤية مخالفة وقوية ومقنعة حول الموضوع، وإذا كانت هذه الرؤية الإضافية متوافقة مع الرأي السابق، فإن ذلك يزيد من الثقة بالقرار الاستراتيجي المقترح.
صحيح أن هذا الأسلوب التحوطي, أو ما يسمى في علم الإدارة الحديث ''إدارة المخاطر'' يزيد من التكاليف الإدارية والمالية للشركة لكنه غالباً ما يؤدي إلى ارتفاع مستوى جودة القرار الاستراتيجي، وتفادي قرارات ربما تكون ذات آثار سلبية كبيرة على أداء الشركة.
ومع ذلك لم تتخذ هذه الإدارة المتحوطة (المحافظه) قرار إيقاف مشروع ''ابن رشد'' الذي كان من الواضح ومن أول سنة لبدء إنتاجه أنه يعتمد على تقنية معملية تجريبية ليست الأفضل، وأن هناك تقنية أخرى مطبقة تصنع المنتج نفسه بـ 30 في المائة من تكلفة التقنية المستخدمة في ''ابن رشد'', قرار عدم إيقاف المشروع يعد خطأ في اتخاذ القرار الاستراتيجي، ومع أن هذا الخطأ أمكن تغطيته من خلال الأرباح الهائلة من المشاريع الأخرى, لكنه مع نجاحات ''سابك'' الكبيرة آنذاك يظل خطأ استراتيجياً.
ولعل من حسن طالع تلك الإدارة أن مشروع ابن رشد واكب سنوات الأداء القوي لـ ''سابك'' فلم يكن ليهدد يوماً من الأيام الربحية العالية للشركة. فـ ''سابك'' نظرياً وعملياً لا يمكن أن نتخيل سيناريو أو وضعاً معقولاً تصل فيه إلى الخسارة، لأنها تحصل على اللقيم (الغـاز) بسعـر 75 سنتا لكل مليون وحدة حرارية, أي بنحو 20 في المائة من تكاليف أكثر الشركات المنافسة الأخرى، وهذه هي الميزة الاستراتيجية التي تتمتع بها ''سابك'' وأخواتها السعوديات على منافسيها العالميين.
كما ذكرنا سابقاً لا يمكن لشخص عاقل أن يتخيل سيناريو أو وضعا تتعرض فيه شركة سابك للخسائر، فهي تحصل على المدخل الرئيس لمصانعها بـ 20 في المائة تقريباً من تكلفة غالبية منافسيها. لقد استطاعت ''سابك'' في تلك الفترة وإلى الآن أن تصل إلى مستوى متميز في جودة منتجاتها، جعلت كل شركات العالم تنظر إليها كموفر لهذه المنتجات، كما استطاعت ''سابك'' أن تصل إلى مستوى متميز وجودة عالية في عملياتها، سواء الفنية أو الإدارية، مكنها من تحقيق أرباح عالية وقيمة مضافة على منافسيها عالمياً، ما مكنها أن تنافس الشركات الأوروبية في عقر دارها وفي مختلف عملياتها, إضافة إلى ما استطاعته ''سابك'' بإدارتها السابقة أن تطوره وتضيفه من قوى بشرية مؤهلة تأهيلاً عاليا وعالميا.
لقد مهدت التوسعات الضخمة في الاستثمارات الحكومية في الجبيل (1) والجبيل (2) والجبيل (3) وينبع الطريق لتنمية استثمارات الغاز والصناعات البتروكيماوية في المملكة، ولتصبح ''سابك'' شركة عالمية، ولتكون أكبر منتج للبتروكيماويات عالمياً. كما استطاعت ''سابك'' عن طريق ذراعها التسويقية الوطنية (سابك للتسويق) اختراق كل الأسواق العالمية بفاعلية وكفاءة عالية، ليصبح الهامش الربحي لـ ''سابك'' للتسويق أعلى من مثيلاتها الأوروبية مثل (دي. أس. أم) و (هنتسمان) الأوروبيتين حتى في عقر دارهما، أي أنه وبعد احتساب تكلفة منتجات ''سابك'' على أساس السعر العالمي للقيم (الغاز)، فإن ''سابك'' مع ذلك استطاعت تحقيق أرباح أعلى من منافسيها الأوروبيين في عقر دارهم .
لقد كانت ''سابك'' تحقق برؤية بعيدة وشاملة وبكل ثقة حلم القيادة والإرادة السعودية في امتلاك صناعة عالمية رائدة ومتطورة وذات قيمة اقتصادية عالمية وقطاع متطور بمنظومة تقنية عالمية وكفاءات وطنية عالية تديره وتطوره وتتقدم به في كل الأبعاد في أنحاء العالم، لتكون ''سابك'' هي الأولى في هذا القطاع عالمياً، ولتكون السعودية هي المالكة لزمامه. لقد كانت البنوك والمؤسسات المالية تتسابق لتلبية طلبات ''سابك'' التمويلية وبمعاملة عالية التفضيل لـ ''سابك'' الذهبية وبأسعار تصل إلى (ليبور + 0.5 %) .
وفي عام 2002 قامت ''سابك'' بشراء (دي. أس. أم) الكيماوية العاملة في هولندا وألمانيا مقابل 2.5 مليار يورو، ثم قامت بإغلاق مصانعها في ألمانيا وأبقت على الجزء الهولندي، علماً بأن الشركة نفسها كانت تفكر منذ عام 2000 في التخلي عن وحدة البتروكيماويات، نظراً لأدائها المالي المنخفض، ورفضت خططاً لتوسيع عملياتها. في الوقت نفسه الذي كانت فيه ''سابك'' تحقق في أوروبا هامشاً ربحياً أعلى مما تحققه شركة (دي. أس. أم) حتى بعد احتساب تكاليف اللقيم، كما هي بالنسبة لهذه الشركة. لقد كانت مصانع الشركة للبولي إيثيلين والبولي بروبيلين والإيثيلين في جلين – هولندا تعاني عدم الكفاءة؛ لقد كانت الشركة في عملياتها ونظامها الإداري تعاني انخفاض الكفاءة، إضافة إلى فقدانها للتنافسية في مخرجاتها، ما جعلها تفكر جدياً في الخروج من السوق كلياً .
لقد كان شراء ''سابك'' شركة (دي. أس. أم) الهولندية طوق نجاة لموظفي هذه الشركة الذين كانوا يتمتعون بضمان اجتماعي عال، ليستمروا في نظام ضمانهم الاجتماعي على حساب ''سابك'' الأم الذهبية. لقد كان بإمكان ''سابك'' إزاحة (دي. أس. أم) من المسرح الأوروبي والحلول مكانها، لكنها آثرت تحمل تكاليف بقائها على قيد الحياة على حساب ''سابك'' السعودية الكفؤة. هذا القرار خاطئ استراتيجياً ، حتى لو أنه لم يؤثر في الأداء الربحي لـ ''سابك'' الأم آنذاك ، لأن الغطاء الربحي العالي من ''سابك'' الأم، جعل إدارة ''سابك'' العليا لا تحلل بطريقة صحيحة ما القيمة المضافة لهذه الشركة المشتراة بـ 2.5 مليار يورو؟ وهل توازي هذه القيمة المضافة التكاليف المدفوعة؟ وهل يمكن الحصول علي قيمة أعلى بتكاليف أقل؟ وحيث إن مثل هذا التساؤلات ربما لم تناقش أصلاً، كان بالإمكان الوقوع في الخطأ نفسه مرة أخرى.
وفي يوم الخميس 28/9/2006 أعلنت ''سابك'' أنها ستشتري وحدة هنتسمان كورب الأمريكية في بريطانيا بقيمة تبلغ 700 مليون دولار، الجدير بالذكر أن بنك الاستثمار (جي بي مورجان) هو الذي تولى ترتيب هذه الصفقة، ومرتبو الصفقات مثل (جي بي مورجان) عادة يكسبون أموالهم الكبيرة فقط إذا تمت الصفقة، فلا شك أن من مصلحتهم إظهار أي صفقة على أنها من مصلحة الطرفين. السؤال المهم: ماذا لو كان هنالك مستشار ثان وثالث وآخر وطني لهاتين الصفقتين، لأن الجميع سائرون إلى إتمام الصفقات ليحصل ممثلو الطرفين على أتعاب خدماتهم الترتيبية .
السؤال الآن كم بقي من مصانع مجمع هنتسمان في العمل؟
وما القيمة المضافة التي حصلت عليها ''سابك'' الأم من هذه الصفقة؟
وهل بقي أي مصنع يعمل وينتج الآن؟
ولماذا تمت هاتان الصفقتان؟
أسئلة يجب على الإدارة العليا في ''سابك'' الإجابة عنها لتحسين مستوى جودة قراراتها الاستراتيجية في المستقبل.
بعد شراء ''سابك'' (دي . أس . أم) في جلين في هولندا عام 2002م وشرائها مجمع هنتسمان للبتروكيماويات في منطقة ''تي سايد'' في المملكة المتحدة عام 2006 يتساءل المساهم العادي والمراقب الاقتصادي: ما القيمة المضافة لهاتين الصفقتين؟ وما حجم مشاركة هذين الأصلين في أرباح ''سابك''؟ وهل العائد من هذين المركزين الإنتاجيين إن صح التعبير يوازي العائد من ''سابك'' الأم؟ أم أن هذين المجمعين يعدان عبئا على أرباح ''سابك'' الأم، للأسف ما توضحه النتائج أنهما أضحيا عبئاً مالياً على ''سابك'' ، غير أن كلا القرارين مع الأسف لم تتم مراجعته بطريقة صحيحة من قبل مجلس الإدارة، ولم يتم تقييم جودة هذين القرارين الاستراتيجيين لـ ''سابك'' بناءً على معايير اقتصادية مقابل الخيارات الأخرى التي كانت متاحة آنذاك. وفي ظل غياب آلية صحيحة لمراجعة هذه القرارات الحيوية وأمثالها لاستيعاب الدروس المستفادة منها؛ فليس غريباً أن تخسر ''سابك'' قضيتها مع ''إكسون موبيل'' في أمريكا حول براءة اختراع مادة البولي إثلين وتضطر إلى تسوية مالية مكلفة جداً كان بالإمكان في وجود نظام مراجعة جودة القرار أن يتم توفير هذه المبالغ وأن تستثمر في فرص حقيقية تستطيع ''سابك'' من خلالها مواصلة نموها. وتبقى الشركة في رأيي المتواضع معرضة لأخطاء استراتيجية جديدة ولخطر انحراف مسار القرار الاستراتيجي عن المسار الصحيح.
في هذه الأثناء كان الطلب على الغاز اللقيم يتزايد محلياً من قبل شركات سعودية أخرى، ما جعل ''سابك'' تخرج برؤية جديدة هي ''سابك 2020'' وضعتها لها إحدى الشركات الاستشارية مؤداها أن مستقبل ''سابك'' ينضوي بشكل كبير في المنتجات المتخصصة Specialty Products لأنها لن تجد غازاً كافياً يعتمد عليه في السعودية أو في الخارج, وبعد ظهور بوادر الأزمة المالية العالمية وفي 21/5/2007 وبعد مفاوضات سريعة وقصيرة أعلنت شركة جي . أي و''سابك'' أن الأخيرة قامت بشراء وحدة جي . أي بلاستك للمنتجات المتخصصة بسعر 11.6 مليار دولار (43.5 مليار ريال سعودي) وكأنها بذلك تحقق استراتيجيتها ''سابك 2020'' بالتوسع في المنتجات المتخصصة؛ كل هذا في قرار تاريخي واحد لم يستغرق اتخاذه ثلاثة أشهر وبتكلفة تزيد على رأسمال ''سابك'' المدفوع.
وبهذا القرار لم يعد هدف ''سابك'' الرئيس إنشاء صناعة وطنية وتطوير التقنية الخاصة بذلك وزيادة القيمة المضافة للناتج المحلي. فبدلاً من أن تنشئ ''سابك'' صناعة وطنية وفرصاً وظيفية جديدة في شركات جديدة وطنية مثل ''ينساب'' و''كيان'' و''ابن حيان'' و''ابن سيناء'' و''ابن زهر'' و''شرق'' و''الرازي'' وغيرها لتنويع الاقتصاد السعودي وأن تبدع في استخدام خليط أكثر تطورا من المواد الخام الأساسية (اللقيم) يشمل البوتان والبروبان والنافتا وغيره, تحولت ''سابك'' إلى شراء شركات متعثرة في اقتصاديات خارجية لاعتقادها بقدرتها على إدارتها من بعد بشكل أكفأ من أصحابها الأصليين، ولتنقذ آلاف الوظائف في تلك الدول.
إن شراء شركة مثل جى إى بلاستيك بـ 11.6 مليار دولار وهي تكسب فقط 674 مليوناً، أي أن ربحيتها أقل من 6 في المائة يعد استثمارا خاطئاً بكل المقاييس الاستثمارية سواء على المدى القصير أو الطويل؛ كما أن تمويل هذه الصفقة بسندات ذات فوائد ثابتة (9 في المائة تقريباً سنوياً) لمدة سبع سنوات يعد انتحارا مالياً للشركة ولتدفقاتها النقدية؛ فبينما ستدفع ''سابك'' ما يقارب 9 في المائة سنوياً على هذه السندات, تصل الفوائد السائدة في أمريكا إلى أقل من 1 في المائة. ومن الجدير بالذكر أن القيمة العادلة لهذه الشركة بناءً على قيمة أرباحها قبل الأزمة المالية لا تزيد على ستة مليارات دولار، أي أن ''سابك'' دفعت تقريباً ضعف القيمة العادلة لهذه الشركة. فهنيئاً لـ ''جي . أي'' ولموظفي ''جي . أي بلاستيك'' الـ 11.000 بهذا الإنقاذ الصاروخي، طبعاً ستتحمل هذه التكاليف الإضافية ''سابك'' الأم وستتقلص أرباح مساهميها على المدى القصير والطويل بشكل جذري لا يمكن العودة منه.
وفي 18/7/2009 أعلنت ''سابك'' أنها ستطبق استراتيجية ''سابك واحد'' SABIC ONE بمعنى دمج كلي بين وحدات ''سابك'' في أمريكا وهولندا وبريطانيا وغيرها مع ''سابك'' الأم لتعمل كشركة واحدة، وبذلك مثلاً يمكن أن تتولى وحدة ''سابك'' في أمريكا عملية المشتريات لكل وحدات ''سابك''، وهو ما يعني نقل وظائف ومهام وعمليات كانت تنجزها وحدات ''سابك'' الأم بكفاءة عالية إلى هذه الوحدات الأخرى لتحسين ربحية هذه الوحدات؛ وكأن المطلوب هو التضحية بـ ''سابك'' الأم من أجل إنقاذ هذه الوحدات الضعيفة الكفاءة وإظهارها بأنها مجدية على ظهر الأرباح الممتازة لـ ''سابك'' الأم، وإظهار القرارات الاستراتيجية منخفضة الجودة بشكل أفضل من حقيقتها.
هذا القرار ''''سابك'' واحد'' ربما سيدمر ما تبقى من ميزة تنافسية لدى ''سابك'' الأم على المدى الطويل، وسيجعلها تفقد القدرة التنافسية, إضافة إلى صعوبة القدرة على التخلص من هذه الوحدات بسهولة لو رغبت في ذلك يوماً. وسيؤدي إلى نقل وظائف ومهام وعمليات حيوية ومهمة من ''سابك'' الأم إلى هذه الوحدات وطرد موظفين سعوديين أكفاء أو إيقاف علاواتهم لتغطية الخسائر الحادثة من الخارج. بل إن كبار الموظفين في ''سابك'' الأم أصحاب الخبرة العالية لن يرضوا بالبقاء وهم يرون انخفاض مستوى جودة القرار الاستراتيجي في الشركة وما يتبعه من انخفاض كبير في ميزتها الاستراتيجية وأرباحها ومن تحميل لـ ''سابك'' الأم وموظفيها الذين عملوا بإخلاص طوال هذه السنين لأخطاء غيرهم وانخفاض ربحية هذه الوحدات التي لا شأن لهم بها.
لنتخيل الآن ''سابك'' من دون ''هنتسمان'' ومن دون ''دي. إس.أم'' ومن دون ''جى. إى. بلاستيك'' هل كانت أرباحها ستتحول إلى خسائر؟ المشكلة ليست في الخسائر أو انخفاض الأرباح المؤقت المبرر مع الدورة الاقتصادية، المشكلة في كفاءة ''سابك'' وهامشها الربحي على المدى الطويل الذي تآكل من قبل وحداتها التي أصبحت تعيش عالة عليها. إن انخفاض الميزة التنافسية الاستراتيجية والهامش الربحي لـ ''سابك'' هو نتيجة حتمية لانخفاض مستوى القرار الاستراتيجي في الشركة، وهذه الميزة لن تعود إلا إذا تم ترشيد وتحسين جودة القرار الاستراتيجي في هذه الشركة الحيوية لاقتصاد وطننا الغالي ومستقبله، وهو ما نرجوه ونتمناه.