ما مجالات العمل ذات المدخول الأكبر؟
في الأسابيع الماضية، ونظراً لاقتراب موسم الامتحانات والتخرج، بدأت تكثر النقاشات الهادفة لتوجيه الشباب إلى مجالات العمل الأفضل. وفي كثير من هذه النقاشات يكثر السؤال عن ''ما العمل ذو المردود المالي الأكبر، وكيف يمكن الوصول إليه؟''
وقد استهواني هذا السؤال، فوددت أن أعرف ما العناصر التي تجعل أي عمل ذا مردود مالي أكبر مقارنة بالأعمال الأخرى. وفي هذا الصدد وجدت عدداً من النظريات:
النظرية الأولى: أن العمل ذا المدخول الأكبر هو العمل الذي يتطلب تدريباً وتأهيلاً أكبر. والمثال الأبرز في هذا الصدد هو مجال الطب الذي يتطلب معدلات عالية ودراسة قد تمتد إلى ما يفوق ست سنوات وعددا كبيرا من الاختبارات خلال حياة المرء. ولهذا تجد كثيرا من الأمهات يدعون لأن يُقبل أبناؤهن في كليات الطب (ووالدتي أحدهم التي يؤسفني أن أكون خيبت ظنها في هذا الصدد). ولكن إذا حاولنا تجربة هذه النظرية على إطلاقها فسنجد عديدا من التخصصات التي تتطلب تأهيلاً كبيراً ولكنها لا تدر دخلاً فائقاً (كالتدريس الجامعي والعمل الأكاديمي)، إضافة إلى وجود عديد من الأشخاص الذين يحققون مداخيل كبيرة دون حصولهم على قدر عالٍ من التأهيل.
النظرية الثانية: أن العمل ذا المدخول الأكبر هو العمل الذي يتسم بأكبر قدر من الندرة. وهذا هو التفسير المفضل لإخواننا الاقتصاديين (إذ إن جوابهم عن كل سؤال يجب أن يشمل كلمة ''الندرة''، أو قريبتها ''العرض والطلب'')، فيقولون إن الأعمال التي يقل عدد الأشخاص الممارسين لها عن الطلب عليها تتسم بقدر عالٍ من المردود. وهذه النظرية قريبة لحد ما من النظرية الأولى. ولكنها أيضاً تحوي بعض المفارقات، فهناك عديد من التخصصات النادرة (كالفيزياء الكميّة) التي قد يحقق أصحابها مردوداً جيداً بالاستناد إليها، ولكنها تظل أقل من مردود كوافير مشهور أو مقاول شاطر (على الرغم من أن هذه الأعمال لا تتسم بالندرة).
النظرية الثالثة: أن العمل ذا المدخول الأكبر هو العمل الأكثر أهمية ومنفعة للمجتمع. للأسف على الرغم من جمال هذه النظرية إلا أنها لا تنطبق في الواقع، وإلا لأصبح المعلمون والأطباء ورجال الشرطة والمزارعون هم أكثر الناس مداخيل في المجتمع.
النظرية الرابعة: أن العمل ذا المدخول الأكبر هو العمل الذي ينطوي على إدارة أكبر قدر من الموارد، سواء كانت موارد مالية أو بشرية. ويقول أصحاب هذه النظرية أنك كلما أدرت أشخاصاً أكثر فإنك ستحصل على مردود أفضل، أو كلما كان تحت إمرتك أصول مالية أكبر فإنك ستحقق مردودا ماليا أفضل لنفسك. بالطبع يمكن إبطال النظرية بسهولة فيما يتعلق بإدارة الموارد البشرية (فمدير المشروع في شركة مقاولات كبيرة قد يدير كماً هائلاً من العاملين ولكنه قد يحقق مدخولاً أقل من مستشار إدارى لا يدير إلا نفسه)، ولكن أيضاً يمكن إبطال النظرية فيما يتعلق بالموارد المالية أيضاً، فالشخص الذي يدير مصنعاً كلف بلايين الريالات قد يحقق مدخولاً أقل من المقاول الشاطر الذي ذكرناه في النظرية الثانية.
النظرية الخامسة: (وهي التي أميل لها): أن العمل ذا المردود الأكبر هو العمل الذي ينطوي على التعامل مع أكبر قدر من العشوائة بحيث يقوم بتحويل المجهول إلى معلوم. فهذه النظرية التي أرى أنها تفسر القدر الأكبر من المفارقات في المردود بين عمل وآخر. فالطبيب يحصل على مردود نتيجة تحويله ظواهر مجهولة (أعراض) إلى معلومات (أمراض وعلاجات)، ومدير الشركة يحقق مردوده لأنه يحول موارد متفرقة ومجهولات عديدة إلى نتائج محسوسة ومعلومة. ومن هذا المنطلق فإن التباين في مردود هذا المدير لا يعتمد في العادة على حجم الشركة، بل على مقدار المجهولات التي تتعامل معها، لذا فمدير شركة كبرى من شركات المرافق العامة (التي عادة ما يتسم عملها بانخفاض المجهولات) قد يحصل على مردود أقل من مدير شركة أصغر ولكنها تعمل في خضم متغيرات ومجهولات أكبر. ولهذا السبب كان أصحاب المشاريع ومؤسسوها من أعلى الناس مردوداً لأنهم يتحملون أكبر قدر من المجهولات ويحولونها إلى أمور محسوسة ومعلومة، ويحولون الغموض إلى وضوح.
****
من هذا العرض الموجز يمكننا أن نستخلص النقاط التالية:
- الشخص الذي يبحث عن أعلى مردود مالي عليه أن يضع نفسه في مكان ينطوي على التعامل مع أكبر قدر من العشوائية والغموض والمجهولات وتحويلها إلى أمور معلومة ومستقرة في نظر الآخرين (ولم يقم بتحويلها إلى أمور مستقرة تماماً).
- مما يزيد من مردود العمل هو إذا اجتمع قدر عالٍ من العشوائية والغموض مع إدارة كم أكبر من الموارد (أي النظريتين الرابعة والخامسة)، ولهذا تجد بعض الناس لا ينتهجون العمل الخاص إلا بعد فترة من العمل في وظيفة، الأمر الذي يمكنهم من جمع موارد أكبر من مستثمرين، وبالتالي الجمع بين النظريتين الرابعة والخامسة الواردتين بعاليه.
- لا تتضايق إذا كان عملك لا يحتوي وصفاً وظيفياً واضحاً، فإن ذلك قد يكون من العناصر التي تعطيك مجالاً لأن تتوسع في تحويل المجهول إلى معلوم (بدءاً بطريقة سير العمل).
- إن أكثر الأمور مردوداً على المدى الطويل هي الأمور التي لم يطلب منك أحد القيام بها من الأساس (أي الأمور الاجتهادية البحتة)، ولكنها أيضاً هي أكثر الأمور التي يصعب على المرء الابتداء بها. وفي هذا الصدد هناك مثل يقول: ''إن أكثر الأمور أهمية في حياتك هي الأمور التي ستواجه أكبر قدر من الصعوبة في الشروع فيها''، وذلك لأن لا أحد يطلبها منك أو يحتمها عليك. وهذا الأمر ينطبق على المشاريع أو الوظيفة أو حتى في الحياة بشكل عام.
- ومن هذا المنطلق، فإن المجال ذا المردود الأكبر للمرء هو بدء المشاريع الجديدة لأنها تنطوي على تحويل أكبر قدر من المجهول إلى المعلوم. ولكنها كذلك تنطوي على تحمل أكبر قدر من المخاطرة. ومن هذا الصدد ورود الحديث المرسل ''تسعة أعشار الرزق في التجارة''.