عملة الخليج .. دروس من أوروبا
إن الأزمة الاقتصادية العميقة التي اجتاحت أوروبا تحمل دروساً مهمة لدول الخليج. ويرجع مأزق أوروبا إلى عدد كبير من العوام، لكن أهمها هو الفشل في الالتزام بقواعد واضحة تهدف إلى ضمان الاستدامة المالية. لقد كان استعداد الاقتصاد الأوروبي سيئاً لمواجهة التباطؤ، وذلك لأن معظم أعضاء الاتحاد الأوروبي استغل الفوائض الكبيرة والمقلقة في الميزانية خلال سنوات الازدهار في العقد الماضي.
إن رسم السياسة الاقتصادية الراسخة بقوة في أهداف استراتيجية واضحة بعيدة المدى وقواعد ثابتة، هو الآلية الحقيقية لإدارة المخاطر، والتي تتخذها الحكومات لمكافحة التقلبات الدورية العنيفة. وفشل معظم الحكومات الأوروبية في الالتزام بهذه المبادئ، وبشكل صارخ في بعض الأحوال، فهي الآن تجد نفسها عُرضة للمخاطر، بينما تعاقب أيضاً وبشكل فاعل جيرانها الأكثر انضباطاً على أخطائهم.
اتباع قواعد واضحة: على دول الخليج أن تبتهج لبناء سياساتها الاقتصادية الأساسية على أهداف وقواعد واضحة. وساعد هذا المنطقة ككل على تجاوز الأزمة بأقل خسائر ممكنة. فالاقتصاديات الأكثر ضعفاً - دبي والكويت - عزت مشكلاتها إلى عدم كفاية التنظيم والإشراف على قطاع العقارات والقطاعات المالية غير المصرفية، والذي نتج عن ارتفاع كبير في الديون وفقاعة العقارات. وفي كلتا الحالتين فقد أجبرت السلطات على تركيز جهودها على الإصلاحات التنظيمية الأساسية. وأصبح قطاع العقارات في دبي أكثر شفافية بينما أعدت الكويت قانوناً جديداً لسوق رأس المال، وذلك لتحسين قوانين المؤسسات المالية غير المصرفية.
ولعل أهم شيء في الأعوام القادمة هو ضمان استمرارية القواعد التي تقوم عليها صناعة السياسة. وتتعرض إلى التعديل أو المراجعة إذا دعت الحاجة إلى ذلك. والغرض من هذه التنظيمات هو تشجيع، لا منع، النمو إلى جانب ضمان استدامته.
أهمية الشفافية: تدعو الحاجة إلى مجال سليم للإحصاءات الاقتصادية وذلك لفهم الميول الحالية والتعرف على المخاطر في الوقت المناسب. ولا يكمن التحدي الأساسي الذي يواجه دول الخليج في تحسين الجودة والتغطية والتوقيت المناسب للإحصاءات فقط، بل كيفية جعلها متناغمة مع بقية أنحاء المنطقة. وأبرزت تجربة الانكماش الاقتصادي العالمي أوجه الضعف الناجمة عن عدم الفهم، والذي نتج بدوره بسبب انعدام البيانات الدقيقة. كما تفاقم أثر عجز الشركات بسبب عدم وجود معلومات وإجراءات تتخذ عند الحالات المستعصية.
مع أن مشكلات اليونان كانت واضحة بما يكفي أمام معظم المراقبين، إلا أن تأثيرها قد تضخم بسبب عدم دقة الإحصاءات. وتسارعت الأزمة بشكل كبير بسبب الكشف الدوري عن التقارير المغلوطة. ومن بين أمور أخرى، فإن التصحيحات القصوى لهذه التصورات الخاطئة أدت إلى خفض تصنيف ديون الحكومة اليونانية مراراً وتكراراً، ما أدى إلى إيقاد مزيد من القلق في السوق.
ينبغي أن ينصب التركيز الأساسي للتكامل على الفوائد الاقتصادية الملموسة: كانت إحدى نقاط ضعف مشروع الاتحاد الأوروبي هي التركيز غير المتناسب على البُعد السياسي للتكامل. ففي حين كان هذا القلق مبرراً من ناحية كفاءة اتخاذ القرار في الوقت المناسب فيما يسمى حالياً مجتمع الـ 27 دولة، إلا أنه قد عزل المشروع عن المواطنين العاديين. ولا يزال الاتحاد الأوروبي، رغم كل المحن، من أهم الكيانات الاقتصادية.
وأحد أهم الجوانب المشجعة للتكامل الاقتصادي في منطقة الخليج، هو التركيز الأخير على القضايا التقنية والاقتصادية. وفي النهاية قد يكون هذا هو السبيل الرئيس لتحقيق فوائد ملموسة للسكان والشركات المحلية. وكلما كانت نتائج التكامل واضحة وملموسة، ازدادت شعبية المشروع في أعين المواطنين وصُناع السياسة على حد سواء.
العملة الموحدة دون إطار تنظيمي واضح وموثوق قد تصبح قيداً اقتصاديا: على عديد من الأصعدة، كان اليورو مثالاُ ناجحاً فاق جميع التوقعات. فقد خلق، أسواقا مالية عميقة، شجّع توحيد الشركات، ودعّم المواءمة التنظيمية. وكان هذا النجاح بشكل جزئي، هو من وضع بذور الأزمة الحالية. وبتخفيض علاوات المخاطر التقليدية المتعلقة ببعض مصدري منطقة البحر الأبيض المتوسط، مكّنهم اليورو من رفع رأس المال المقترض بثمن أقل وأكثر فاعلية مما مضى. فقد أصبحوا المستفيدين على حساب جيرانهم الأكثر انضباطاً. ومع ذلك، فالعملة الموحدة تحكم عديدا من آليات التعديل التقليدية في هذه الحالة، وفي ظل غياب المرونة الكافية على مستوى الأفراد، فالخطر يكمن في كونها عائقاً يعمل على غرار معيار الذهب خلال الحرب.
يجب رصد القواعد وتطبيقها بفاعلية: لم يكن العيب الأساسي في أوروبا هو انعدام القواعد، ولكن عدم اكتمال تنفيذها وعدم كفاءة تطبيقها. في ظل معاهدة الاستقرار والنمو الأوروبية، لم تكن اليونان لتواجه هذا العجز قطعياً. إلا أنه لم يكن هناك آلية موثقة تمنع ما حدث. والتحدي الرئيس أمام دول الخليج، في خضم استعداداتها لتوحيد العملة، هو التأكد من اكتشاف الاختلالات الاقتصادية قبل أن تتفاقم والتأكد من أن هناك آليات تطبيقية جماعية تجبر الدول على اتخاذ إجراءات تصحيحية في الوقت المناسب.
يجب على البلدان التي تخضع لوحدة اقتصادية أن تسعى للمرونة من خلال وسائل أخرى عدا عن تعديلات العملة: إن تعريف عضوية العملة الموحدة يحكم اختيار تعديل سعر الصرف كمصدر للمرونة. وفي ظل هذه الظروف، ففي حين فقدان القدرة التنافسية، يجب استعادتها من خلال زيادة الإنتاجية وخفض التكاليف. في حين أن هذا التحدي السياسي يواجه توحيد العملة، إلا أن مثل هذه الاختلافات تتجسد بشكل واضح داخل كل بلد على حدة، ما يجعل من الضروري مراقبة الإجراءات التي تتخذها الحكومات الوطنية الفرعية. ولدى دول الخليج ميزة خاصة بهذا الصدد وذلك بسبب ربط عملاتها بالدولار لمدة طويلة فيما عدا الكويت، إلا أن النقاشات حول إعادة تقييم العملة أحدثت ضجة في 2007 – 2008 م.
مسائل في إدارة المخاطر: دائماً ما تخلق الآليات الرسمية لإدارة المخاطر، مخاطر أخلاقية إلا أنها تساعد أيضاً على تعزيز المصداقية.
إن وجود صندوق النقد الدولي، وبسبب الشروط الصارمة للقروض، خلق آلية الملاذ الأخير الفاعلة، والتي تتردد الحكومات قبل استغلالها ما لم تكن مضطرة لذلك. لقد كان استعداد الاتحاد الأوروبي للأزمة سيئاً والجدل القائم حول صندوق النقد الأوروبي هو أحد الأمور التي لا بد أن تعيرها دول الخليج انتباهاً خاصاً.
عاقبة الأخطاء: تدفع أوروبا ثمناً غالياً لعدم تطبيقها القواعد. فحملة الإنقاذ الحالية من الممكن أن تكون كافية للحفاظ على منطقة اليورو. ومع ذلك، فالدول التي تواجه سنوات من التقشف، ستدفع ثمناً اقتصاديا باهظاً، ولا يزال الوقت مبكراً لمعرفة إذا ما كان هذا الثمن مقبولاً اقتصاديا. علاوة على ذلك، فإن حملة الإنقاذ وحدها تحتوي على 60 مليار يورو من تمويل الاتحاد الأوروبي، و440 مليار يورو من ضمانات القروض الحكومية الدولية، و250 مليار يورو من مساعدات صندوق النقد الدولي. فدعم الاتحاد الأوروبي وحده هو فائض إجمالي الناتج المحلي السنوي لدول أوروبية متوسطة الحجم مثل بلجيكا أو السويد. علاوة على ذلك، فهناك رأي واسع الانتشار بأن البنك المركزي الأوروبي فقد كثيراً من مصداقيته، وهو الذي يعد حتى الآن من أهم البنوك العالمية وأكثرها تماسكاً. وكان على البنك المركزي الأوروبي أن يقدم عدداً من تدابير الطوارئ، وأن يقوم بشراء سندات كوسيلة لدعم أسواق الديون المعطلة. ومع ذلك، فهو يصر على أن موقف السياسة النقدية الشامل لن يتأثر.