القواسم الثقافية المشتركة بين العرب والغرب
ما بين العرب والغرب من قواسم مشتركة ثقافية يؤسس لقيام مصالح مشتركة تستدعي الرعاية والصيانة من الجانبين، بالنظر إلى جزيل الفوائد الناجمة عنها، والتنمية المستمرة التي تكفل قيام شراكة ثقافية حقيقية ومتوازية بين العالمين. ومن النافل القول إن هذه المصالح ليست معطى''موضوعيا تلقائيا يفرض نفسه على الجانبين، إنما هي مما يحتاج إلى وعي ذاتي (بها) وبناء. وهذه كناية عن جملة من الأهداف القابلة للصياغة والجدولة من أجل التحقيق المادي. وهي في جملتها أهداف شديدة الاتصال بالدفاع عن المتحقق في علاقة التثاقف وعن القيم المشتركة من وجه، وترتبط - من وجه ثان ـ بالسعي في توسعة نطاق مكتسبات العلاقة وتنمية الرأسمال الثقافي، كرأسمال مركزي، في العلاقات بين العالم العربي ـ الإسلامي والعالم الغربي.
نلقي هنا نظرة سريعة على ثلاثة من وجوه المصلحة التي نزعم وجودها بين العالمين:
تتمثل المصلحة الأولى الجامعة في تنمية أواصر الثقافية بين العالمين وتعظيم مكتسبات الميل التواصلي ـ التثاقفيّ بينهما على نحوِ يبدد أسباب التجافي وسوء التفاهم في المسائل المختلف حولها, وغنيّ عن البيان أن إنجاز هذه المهمة الثقافية مدخل وظيفي ناجع لتنمية العلاقات بين مجتمعات ودول العالم على صعد أخرى مادية ـ يطبع العلاقات فيها الاضطراب والتّشاكّ (الشك المتبادل) هناك في الداخل الأوروبي ـ والغربي ما يبرّر ذلك, ومنه وجود عشرات الملايين من العرب والمسلمين المقيمين في المهاجر الغربية، تطرح إقامتهم – واختلافهم الثقافي – أسئلة على المجتمعات لا تستطيع هذه الأخيرة استيعابها دائما، وقد لا ترى فيها غير شكل من التهديد لقيمها الثقافية ومعاييرها.
ومن ذلك أيضا أن حضور أوروبا والغرب في مجتمعاتنا اقتصادا وسياسة وثقافة، بما أثار ـ سيثير قطعا ـ مشكلات لا يستطيع سوى المثقفين أن يفهموا سياقاتها ويحسنوا تناولها بالأسلوب المناسب, وعلى ذلك، لا مندوحة من علاقة ثقافية متواصلة تكون سدا منيعا أمام ما قد يفاجئ العلاقات المادية من أسباب أزمة أو انتكاس، وقاعدة مرجعية لمقاربة مسائل الاختلاف الثقافي بين المنظومات على نحو موضوعي خال من الحساسيات.
تتمثل المصلحة الثانية الجامعة في الحاجة إلى حماية القيم الثقافية المشتركة وتحصينها من خطر التفكك أمام زحف قيم ثقافية جديدة واردة من مصادر ومراكز تقع خارج المجال المتوسطي والمجال العربي ـ الأوروبي.
إن القيم الثقافية المشتركة بين العالمين ليست وليدة سنوات أو عقود، إنها ميراث تاريخ بعيد صنعته روابط الاتصالات والتبادل الثقافي ـ السلمي والعنيف ـ على ضفتي المتوسط وبين مجتمعاته. فلقد قام في المجال المتوسطي وبجواره الديانات التوحيدية وما نتج عن رسالاتها من ثقافات وحضارات، ونشأت الفلسفة الإغريقية والفلسفات الوسطى المسيحية والعربية ـ الإسلامية، ونشأ القانون العراقي، والقانون الروماني، والفقه الإسلامي، والقانون الوضعي الفرنسي. وفي المجال المتوسطي ظهرت الرياضيات والعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية الحديثة, وفيه خرجت إلى الوجود مبادئ الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان بعد سوابق من التعايش ـ في شرق المتوسط وفي الأندلس مثلت أعظم تجارب التسامح الديني وليس قليلا، على الجملة، أن يكون المتوسط مهد الدين والحضارة والفلسفة والعلم والتسامح الديني وحقوق الإنسان والديمقراطية, وأن يكون منطلق انتقال ونقل كل هذا التراث العظيم إلى البشرية جمعاء
يتعرض هذا التراث الثقافي المشترك ـ وقد جرى تعظيمه في القرنين الماضيين ـ لتهديد حقيقي من قيم ثقافية أخرى جديدة نمت في كنف العنف والغرائز والرأسمال المجرد من الأخلاق. وهي اليوم تزحف إلى أصقاع العالم كافة مستثمرة مكتسبات ثورة المعلومات والاتصال والعولمة.
ولقد قيل – فيما مضى – إن المثقف العربي انكفائي ومعاد للحضارة والعصر بسبب دفاعه عن الأمن الثقافي في وجه استباحة ثقافية عولمية متنامية. لكن معركة فرنسا، السنوات الأولى لعقد التسعينيات الماضي، من أجل ما سمته - الاستثناء الثقافي ـ من أحكام العولمة التجارية بمناسبة مفاوضات ''الجات'', وهي معركة ثقافية مشروعة, أعادت الاعتبار لمقولة الأمن الثقافي وكشفت عن حجم التهديد الذي يمكن أن تتعرض له منظومة ثقافية ما من منظومة أخرى مختلفة القيم والرموز والمعايير، وهو تهديد يشتد أكثر حتى ركبت المنظومة الزاحفة سبيل الصورة – لا الكلمة – على نحو تنفتح لها الحدود فيها أمام اكتساح ثقافي من طريق حامل شديد التأثير والفعل هو النظام الإعلامي البصري, نظام العولمة الثقافي.
تبقى ثالثا مصلحة ثقافية مشتركة لا تقل أهمية وقيمة عن المصلحتين السابقتين, تنمية مكانة الثقافة والثقافي داخل بنى هذه المجتمعات وبصورة خاصة, تنمية دور المجتمع الثقافي وتأثيره في دائرة صناعة القرار, وفي ظننا أنها مشتركة بسبب تدهور موقعية الثقافي في المراتبية المعيارية العامة في بلدان الغرب كما في بلداننا.
ربما اعتقد كثيرون منّا نحن العرب على الأقل, أن مركز الثقافة في الحقلين الاجتماعي والسياسي قوي في المجال الأوروبي, ولا يقاس مركز ثقافتنا في المجتمع به وبما له من ثقل, وفي الظن أنه اعتقاد خاطئ, ذلك أن أدوار الفقهاء وعلماء الدين في المجالين الاجتماعي والسياسي في العالم العربي والإسلامي لا تقل أهمية وتأثيرا عن أدوار المثقفين الغربيين في مجتمعاتهم بقطع النظر عن المضمون الثقافي لبضاعة هؤلاء وأولئك, ومع ذلك فإن أدوارهم في العالمين (العربي والغربي) دون أدوار غيرهم مكانة وقوة وتأثيرا, ومركز المعرفة والثقافة في النظام الاجتماعي أدنى مرتبة من غيره في مجتمعات الرأسمال – الميتروبولية والتطرفية ـ ما عاد للرأي اعتبارا أو كبير مكانة بات الطلب أكبر على فئات أخرى أجزل إنتاجية وأكثر نجاعة: التكنوقراط والخبراء ومديرو المقاولات ومن في هذا المعنى. ومع أن تعقد المشكلات الاجتماعية في الحضارة المعاصرة بات يطرح أسئلة تفترض تدخل المثقفين، ومع أن الإنتاج الفكري الذي يقدمونه في الميادين كافة يظل في جميع الظروف هو البنية التحتية العميقة التي تنهل منها السياسة ومنها تستلهم برامجها واستراتيجياتها إلا أن مركز المثقفين بقي هامشيا على صعيد القرار السياسي.
ربما كانت هذه المصلحة العنوان الأصعب والأعقد في الشراكة الثقافية, خصوصا أن موضوعها يبدو مطلبا داخليا في كل مجتمع. ومع التسليم بصحة هذا الأمر نفترض أن المثقفين الغربيين والعرب والمسلمين مدعوون إلى تفكير جماعي في هذه المهمة لأن عليها يتوقف مستقبل هذه الفئة في الكيان الاجتماعي أن هذا التفكير ـ في ما نقدر ـ من الطقوس التي يحمل عليها واجب التضامن بين المثقفين أيا تكن انتماءاتهم القومية والدينية فكيف إذا كان بينهم جوامع من النوع الذي ألمحنا إلى بعضه سلفا وعليه قد لا يكون مطلوبا من الشراكة في هذا المقام أكثر من تنمية أسئلة مشتركة في هذه المسألة عسى ذلك يفتح التفكير في الموضوع على آفاق أرحب.