شعوب ساخطة وحكومات صامتة
عندما شن العدو الصهيوني عدوانه الهمجي على غزة العام الماضي وشاهد العالم بشاعته وفاشيته, وهو لا يفرق بين مدرسة أطفال ودشمة عسكرية, ومخزن أدوية وأغذية ومخزن سلاح, فيطلق حممه الحاقدة كي تصيب ما تصيب بشرا وحجرا وشجرا, لا فرق عنده ما دام الهدف فلسطينيا, وقتها لم يحتمل الضمير العالمي الإنساني, على الرغم من إبر التخدير الإعلامي الصهيوني له على مدى حقب طويلة, مشاهد الترويع والإرهاب الذي مارستهما القوة العسكرية الصهيونية الغاشمة ضد سكان قطاع غزة المحاصر والأعزل من سلاح فاعل ومن الغذاء والدواء والماء, فخرجت معظم شعوب العالم في أوروبا والأمريكتين الشمالية والجنوبية وآسيا وإفريقيا, وتقاطرت حاشدة وصاخبة وهي تندد وتجرم هذا العدوان, وكان كلما أوغل العدو في عدوانه ارتفع ضجيج الضمير العالمي الشعبي الرافض لهذا العدوان, في لحظة مثلت عودة وعي إنساني عالمي بحقيقة هذا الكيان الفاشي والعنصري والعدواني.
الملاحظة الفارقة والمهمة هي أن العدو لم يعر وقفة شعوب العالم ضد عدوانه أي اعتبار, ولم يعطها أي اهتمام, بل مضى في عدوانه حتى مل وأدرك أن كسر شوكة المحاصرين في غزة بعيد المنال. وبالبرود نفسه الذي شن به عدوانه قرر إيقافه ليس استجابة لمطالب الرأي العام العالمي, ولا خشية عقاب دولي ومحاسبة قانونية, بل للتكاليف المالية الباهظة والمعنوية لهذا العدوان, وهو لا يحقق إلا نزوة فاشية نازية فقط.
الأسبوع الماضي كرر هذا الكيان العدواني عدوانه, لكن بصورة أوسع وأخطر, فقرصنته الإجرامية على أسطول الحرية في المياه الدولية, تعكس تطورا بالغ الخطورة لمدى عدوانيته, التي لم تعد مقتصرة على الفلسطينيين, بل ضد شعوب العالم والشرعية الدولية, كما تسمى, وقوانينها, التي كانت ممثلة في هذه القافلة الإنسانية, فلم يتوان ولم يتردد لحظة في إرسال قتلته ومجرمي حروبه لاعتراض القافلة في عرض البحر ومهاجمتها وكأنها بارجات حربية لا سفن مدنية تحمل أطعمة وأدوية ومساعدات إنسانية لشعب يحاصره هذا العدو بما لم يعد الضمير العالمي يحتمله, وكما حدث في غزة, كررت الشعوب وقفتها وإدانتها لهذه العدوانية الصهيونية مرة أخرى.
في هذا العدوان السافر الأخير في سلسلة عدوانية الكيان الصهيوني المستشرية, تبرز ملاحظتان لهما دلالاتهما, الأولى أن هذا الكيان يدرك أنه ما دام ضامنا مواقف حكومات العالم الصامتة والمحايدة على أقل تقدير, لن تضيره احتجاجات الشعوب وسخطها عليه بما فيها شعوب الدول الديمقراطية التي يفترض أن حكوماتها حريصة على مواقف الرأي العام فيها, وفعلا ما إن توقف العدوان على غزة مثلا حتى ذهب سخط الشعوب أدراج الرياح, ولم يترك أثرا يذكر في القرار السياسي الدولي, فلا دان ما يسمى المجتمع الدولي ممثلا في مجلس الأمن ذلك العدوان إدانة عملية, ولا عاقب القانون الدولي كيان العدو على عدوانه كما يفعل مع غيره, وشاهدنا كيف أن تقريرا مثل تقرير جولدستون توصد عليه الأدراج, ودعاوى المقاضاة الدولية تتلاشى ولم يعد يسمع لها صوت بما فيه المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية الذي تشاطر فقط على السودان.
الملاحظة الأخرى أن هجوم قتلة هذا الكيان تركز على السفينة التركية مرمرة بشكل متعمد ومقصود, ولهذا فإن جل القتلى والمصابين هم من الأشقاء الأتراك, وهذا التركيز على السفينة التركية واضح أنه رد على مواقف تركيا الأخيرة, خاصة مواقف رئيس وزرائها رجب أردوغان, الذي سبق أن «مرمط» بشمعون بيريس الأرض في مؤتمر دافوس العام الماضي, برغبة إحراجه أمام شعبه وأمام العالم, وهذا ما عكس حدة رد الفعل التركي وصرامة أردوغان في مواجهة ما حدث, وهذا يوضح أن كيان العدو يغلب نزعته الإجرامية والفاشية على مصلحة علاقاته مع أي طرف يقف حجر عثرة تجاه عدوانيته ويرفضها.
إن إيغال هذا الكيان في عدوانيته حتى وصل للبحار الدولية ومهاجمة سفن الإنقاذ والمساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني المحاصر في غزة, مسؤوليته تقع على المجتمع الدولي ممثلا في حكوماته, خاصة صاحبة القرار فيه وعلى الأخص الولايات المتحدة, ففي الوقت الذي عبرت فيه شعوبها عن ضميرها الإنساني الحر بجميع انتماءاتها القومية والدينية بما فيها شريحة من اليهود الرافضين لممارسات الكيان الصهيوني العنصرية, وقفت هذه الحكومات متأخرة جدا عن نبض جماهيرها وشعوبها, فبدلا من أن تترجم ذلك في استصدار القرارات الدولية الرادعة لهذا الكيان العدواني, إذا بها تحميه وتدافع عنه بحجة أن عدوانه دفاع عن النفس, وهذا ما حدث في بيان مجلس الأمن الباهت والمتردد والمطاط, الذي لا يساوي الحبر الذي طبع به, الذي تدخلت واشنطن بثقلها بتفريغه من أي قيمة سياسية وقانونية تتوازى مع الجرم المرتكب, فإذا كان العدوان ذاته جريمة فإن التغطية عليه مشاركة فيه, وهذا ما يمكن أن توصف به مواقف الحكومات التي تقاعست وغطت على الهمجية العدوانية لهذا الكيان العنصري الفاشي.