بانوراما التمويل في المملكة .. ودور صناديق التنمية (3)

في هذه السلسلة من المقالات حول بانوراما التمويل في المملكة ومصادر هذا التمويل: من أين يأتي وإلى أين يذهب؟ نكتب اليوم المقال الثالث من هذه السلسلة بعد أن تحدثنا في المقال الأول على مصادر التمويل الأربعة بحجم تمويل بلغ 1350 مليون ريال (تريليون و350 مليار ريال) من المصدرين الأول والثاني. وخصصنا المقال الثاني للتحدث عن الدور الحكومي (المصدر الأول) وحجم التمويل المقدم من الصناديق الحكومية بشكل عام والذي بلغ نحو 600 مليار ريال يمثل 44.4 في المائة من إجمالي مصادر التمويل المقدمة من الحكومة والقطاع المصرفي مجتمعين. وفي هذا السياق أثرنا عددا من الأسئلة التي لم نجب عليها في حينه وهي: هل قامت تلك الصناديق بالدور المطلوب منها، سواء القديم والحديث من تلك الصناديق؟ هل ساعدت على تحقيق أهداف التنمية التي من أجلها أنشئت تلك الصناديق؟ وهل هناك حاجة اليوم إلى إعادة تقييم تلك الصناديق والدور الذي تقوم به وربط ذلك الدور بأهداف التنمية الأربعة عشر الجديدة؟
سبق أن ذكرنا أن عدد الصناديق التنموية الحكومية اليوم وصل إلى 6 صناديق تنموية حكومية. ويأتي في مقدمة تلك الصناديق: صندوق الاستثمارات العامة (1391هـ)، وصندوق التنمية الصناعية (1394هـ). عمر هذا الدور التنموي ما بين أول صندوق أنشئ في عام 1382هـ وهو الصندوق الزراعي، وتاريخ اليوم ونحن في عام 1431هـ، يقرب من نصف قرن (50 عاماً). وهو ما يعني أنها تجربة يفترض أنها ثرية جداً! ولكن ومن خلال هموم التمويل اليوم التي يعيشها المجتمع سواء الأفراد أو قطاع الأعمال المحلي وكثرة الحديث عن ضرورة إيجاد حلول، نجد أن هناك قصورا واضحا في تلبية الحاجات المتنامية إلى الحد الذي يمكن أن يوصف بالعجز الكامل أو الشلل في تحقيق طموحات الأفراد والقطاع الخاص بحسب ظروف ومعطيات اليوم. وذلك رغم الدعم الواضح خلال الخمس سنوات الماضية لعدد من تلك الصناديق بهدف خدمة أهداف التنمية للأفراد والشركات سواء لصندوق التنمية الصناعي من خلال زيادة رأس ماله بأكثر من عشرة مليارات ريال ليصل إلى 30 مليار ريال، واقتراح مجلس الشورى الأخير زيادة رأسمال صندوق التنمية العقارية إلى 200 مليار ريال، وكذلك اقتراح زيادة رأسمال البنك السعودي للتسليف والادخار من 6 مليارات ريال إلى 20 مليار ريال. وإنشاء الصناديق الجديدة مثل الموارد البشرية لدعم التوطين للوظائف، والخيري لمساعدة المحتاجين، والمئوية لمساعدة الأعمال المتناهية الصغر.
كل ذلك يعطى مؤشرات طيبة من قبل صانع القرار ويؤكد وجود الرغبة في دعم الصناديق لتقوم بدورها التنموي، كما هو محدد لها. ولكن...! هل استطاعت تلك الصناديق اليوم أن تلبي الحاجات المتنامية داخل الاقتصاد والمجتمع؟ بالتأكيد الإجابة «لا» حتى وإن تمت زيادة رؤوس أموالها! لماذا؟ أين الخلل؟
بداية نقول وبشكل واضح إن تلك الصناديق أدت في السابق أدوارا لا يمكن نكرانها أو التقليل من شأنها. ولكن نقول إن الإجابة «لا» اليوم وغدا لعدد من الأسباب يمكن إيجازها فيما يلي: أنه بعد خمسين سنة نجد حجم الاقتصاد السعودي وعدد سكانه لم يعودا بالحجم والعدد نفسيهما في عام 1960م. وهذا أمر إيجابي. ولكن الغير الإيجابي أن تلك التغيرات الجذرية التي حدثت في كل مناحي الحياة لم يصاحبها تغير في هياكل وطريقة إدارة تلك الصناديق، ولا تزال تنطلق من الرؤية القديمة نفسها! وهنا علي أن أستثني صندوق الاستثمارات العامة وصندوق التنمية الصناعية، حيث تتوافر فيهما مهنية ممتازة سواء في الإدارة أو في تطور الرؤية بما يتماشى مع معطيات الواقع اليوم، وأعتقد أن حجم القروض التي قدمها صندوق التنمية الصناعية اليوم، الذي يتجاوز 2000 قرض حتى عام 1428هـ بمبالغ تتجاوز 66.8 مليار ريال خير شاهد على ذلك. والمميز والمهني في عمل الصندوق أن نسبة تدوير الأموال تصل قريبا من 100 في المائة، بمعنى أن رأس المال غير مجمد في قروض تذهب في طريق واحد، كما هي حال صناديق أخرى! بل يتم تسديد كامل القروض وبالتالي يحصل الآخرون على قروض جديدة.
في حين أن صندوق التنمية العقارية ورغم أنه قام بجهد جبار وصل حجم التمويل الممنوح من قبله أكثر من 140 مليار ريال خلال عمره 37 عاماً، ولكن مشكلات الصندوق أن نسب التدوير للأموال متدنية، حيث تذهب تلك الأموال في اتجاه واحد، وبالتالي عجز الصندوق عن تلبية الحاجات المتزايدة المواطنين الذين يبحثون عن مسكن، حيث لم تتجاوز نسب الذين يمتلكون مسكنا (20 في المائة)، وهو بهيكلته وإدارته اليوم غير قادر على سد حاجة ماسة للمجتمع وأساسية! ومما يزيد من ضبابية الصورة في هذا الخصوص أن البدائل أيضا لا تزال غير قادرة على سد الفجوة حيث لا يزال حجم التمويل عبر قروض الرهن العقاري من قبل القطاع المصرفي لا يتجاوز 13.4 مليار ريال منحت إلى نحو 19.4 ألف عميل نتيجة غياب بنية نظامية قادرة على حماية الحقوق، بينما الإحصائيات تدل على أن هناك أكثر من 500 ألف مواطن في انتظار قروض الصندوق التي لا يتجاوز حجم القرض الواحد اليوم 300 ألف ريال، حتى إن توصية مجلس الشورى الموقر برفع قيمة القرض إلى 500 ألف ريال تدل على أن المجلس بأعضائه بعيدون عن الواقع وأن الرؤية لا تزال مفقودة، حيث إن قيمة أي بناء لأي منزل مع قيمة الأرض لن تقل في أي حال من الأحوال عن مليون ريال خارج المدن، فما بالك بالمناطق الداخلية إن وجدت أرض يمكن البناء عليها! كنت أتمنى أن يأتي المجلس بحلول مبتكرة لمشكلة معقدة!
ينطبق الحال على البنك السعودي للتسليف والادخار الذي وضع نفسه في موقف لا يحسد عليه، نتيجة فتحه الأبواب دون دراسة، حيث رفع سقف التوقعات وزاد من مستوى الطموحات للمواطنين دون أن يكون قادرا على تحقيق شيء منها، وبالتالي أعلن على لسان مديره أن البنك يعاني أزمة مالية خانقة بعد توزيع الأموال على شكل يشبه الهبات الأمر الذي استفاد منه البعض ولم يستفد السواد الأعظم حتى وصل الأمر إلى المعاريض والواسطات لتقديم الأوراق، رغم الزيادة الفلكية لرأس مال البنك، ولكنها ذهبت هدرا. أيضا بسبب غياب الرؤية وكأن الأمور فقط لتمشية الحال اليوم ولا يهم ما يحدث غداً.
أما الصناديق الحديثة فحدث ولا حرج، وبالذات ذلك الصندوق المتضخم جداً مالياً! أقصد صندوق الموارد البشرية. والذي أتفهم كثيراً أسباب عدم الاستفادة من الأموال التي لديه وأتفهم لماذا لا يستطيع تحقيق أهدافه لأنها مربوطة بأهداف توطين الوظائف التي تواجه بمقاومة شرسة من رجال أعمالنا الأفذاذ!!! ويقال نفس الحديث عن الصندوقين المئوي والخيري واللذين قاما على أساس وفكرة ممتازة وتطبيق لم ينجح منهما أحد حتى تاريخه! وكثير مما يحدث لم يكتب بعد!
ولا أريد أن أسترسل، حيث إنه وفي هذا الصدد نستطيع أن نخلص إلى نتيجة واحدة وهي أن الدعم الرسمي موجود والرغبة صادقة والأفكار جميلة، ولكن فتش عن الإدارة لتعرف لماذا لم تتحقق الأهداف من بعض الصناديق! نحن في 2010م والصناديق معظمها أسس في الستينيات والسبعينيات وهي بحاجة إلى إعادة نظر بدورها وفاعلية تلك الأدوار. والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي