كيف تتشكل شخصيةالمتدين (2 من 10)
وشخصية المتدين تتشكل في الأساس من خلال تكامل فهمه ووعيه لهذه القيم والمبادئ، وكذلك من خلال تجربته الذاتية في انعكاس وتجسيد هذه القيم على سلوكه وممارساته, فهناك دائرة الفهم والوعي والاستيعاب لمعاني النصوص الدينية وهناك دائرة التجسيد والانعكاس، وكلتا الدائرتين قد تتسع وقد تضيق وقد تنبسط وقد تنقبض لتتحدد بالتالي مساحة ذلك الدين في شخصية ذلك المتدين. فالإنسان قد يرى نفسه متدينا ومساحة الدين في شخصيته لا تتجاوز 1 في المائة من مجموع شخصيته, وقد ندعي على شخص وربما مجتمع بعدم التدين، وعند ذلك الشخص أو المجتمع مساحات من التدين تفوق ما عندنا بأضعاف مضاعفة. فعندما يزور عالم مسلم بلادا غير إسلامية ويرى بنفسه كيف أن هذه المجتمعات اللاإسلامية أخذت والتزمت بما يدعو إليه الإسلام من صدق في المعاملة وإتقان في العمل وحسن في التنظيم واجتهاد في المحافظة على الحقوق والمساواة في الفرص والعدالة في التعامل والتأكيد على البعد الإنساني في تشكيل العلاقات الاجتماعية، فمن غير المستغرب أن يقول هذا العالم إن ما وجده هناك هو الإسلام, وإن كان إسلاما بلا مسلمين في مقابل مسلمين بلا إسلام. ومن المهم أيضا أن نعرف أن للدين مكونات متعددة ولكل من هذه المكونات إسقاط وبمساحة معينة على شخصية المتدين, وكلما أخذت هذه المكونات ما تستحقه من مساحات في بناء وتشكيل شخصية ذلك الفرد أو المجتمع المتدين كان هذا التدين هو الأقرب إلى الدين, ولكن عندما يغيب مكون معين لحساب مكونات أخرى أو لا تعطى لبعض المكونات ما تستحقه من مساحة ويسمح إما بقصد وإما من غير قصد للمكونات الأخرى بالتمدد وأخذ مساحة بأكثر مما تستحقه، فإن النتيجة تكون عندنا شخصية متدينة ولكن بتدين مشوه وغير متوازن. ولعل التدين المشوه يضر بالدين أكثر ما يضر به اللاتدين؛ لأن المتدين المشوه في تدينه يشوه أصل صورة الدين وهذا الفعل يتأثر به المتدين الآخر وغير المتدين على خلاف اللامتدين الذي قد ينال من الدين ولكن من الخارج, والتأثير القادم من الخارج يبقى محدودا نسبة للتأثير الذي يكون مصدره من الداخل, فالتأثير الخارجي في طريقه مصدات كثيرة, فكرية ونفسية واجتماعية وأما التأثير الداخلي فهو يتحرك من وراء هذه المصدات وبالتالي تكون له مساحة أكبر من التأثير. فمن المهم ألا نفهم التدين على أنه منتج بسيط، بل إنه مركب وكل مركب لا بد من أن تتوازن فيه مكوناته ليكون أو ليقترب من أن يكون هو فعلا ذلك المركب المطلوب. فمثلا يتهم المتدين في صورته النمطية المعاصرة بأن عنده تضخم في الجانب العقدي وضمور في الجانب الفكري والنقدي، ولعل حالة عدم التوازن هذه في شخصيته هي التي جعلته أقرب إلى التشدد والتطرف ومن ثم السهولة في الانزلاق في دائرة العنف. وهناك أيضا تفسير عند البعض لحالة الفوضى التي تعيشها معظم المجتمعات الإسلامية بأن وراء هذه الفوضى أو المسبب الرئيسي لها هو أن الأخلاق المرتبطة بحفظ الحقوق صارت لها مرتبة متدنية جدا ومساحة محدودة وضيقة مقارنة بالجوانب الدينية الأخرى مثل العبادات.
الحقيقة الثالثة التي يفترض أن نستوعبها وهي أن رسالة الدين تتمحور حول فكرة الارتقاء بإنسانية الإنسان، وبالتالي فالتدين هو حركة تأخذ بالإنسان إلى حيث إنسانيته وعندما يحدث العكس وتكون الحركة في الاتجاه المعاكس، الذي يبعدنا عن إنسانيتنا ويجعلنا نمارس سلوكيات لا تتوافق مع ما يتفق على أنها صور إنسانية، ففي هذا يجب أن يكون تنبيه لنا بأننا وإن كنا في حالة من التدين إلا أنه من النوع الذي يولد خارج رحم الدين, فهذا التدين يخلق لصاحبه دينا يخنق إنسانيته ويحيله إلى كائن يأتمر بكل ما يملي عليه الشيطان من ممارسات ليكرس بها شيطانيته على حساب إنسانيته. فالبعد الإنساني في شخصية المتدين هو بوصلة هداية لئلا يقع المتدين في غير الطريق الذي يلتقي به مع الله ـــ سبحانه وتعالى. فالإنسان المتدين إن لم يكن في وجوده رحمة لنفسه ولأهله ولمجتمعه وللبشرية كلها فإنه في الواقع إنسان متشيطن وليس متدينا وإن توهم أن تجهمه وسوء خلقه وغلظته في التعامل مع الناس وقسوته مع مخالفيه كلها تعبير عن حماسته وتعلقه الشديد بدينه, فالمتدين الحق لا يستدرج للخروج من دائرة إنسانيته لأنه يعلم أنه في اللحظة التي يخرج فيها من هذه الدائرة ستتلقفه دوائر كلها باطل وكلها ظلمات وكلها صور من التدين الزائف والوهم الخادع.
هذه الحقائق الأساسية التي يقوم عليها مفهوم التدين, أما في الواقع فإن هذه الحقائق التي قد تبدو لنا واضحة ومن الأمور المسلم بها ما دام الحديث عن الشخص المتدين، الذي يفترض أنه يكون أبعد ما يكون عن الأنانية وأقرب ما يكون للإنسانية وأكثر من يطلب الحق والحقيقة وأشد من يرفض الأوهام, فإنها غالبا ما تصطدم بمرشحات ومصدات تشوهها وتمنع وصولها في كامل حقيقتها. وفي النقاط التالية وقفة سريعة مع بعض هذه المرشحات والمصدات التي قد يكون لها دور مؤثر في تشكيل تدين الإنسان:
1- عندما نريد أن نختزل الدين في أشخاص ومن ثم نجعل هذا الشخص هو المدخل الوحيد لمعرفة الدين, فالدين هو أكبر من أن يسعه شخص أو أشخاص, وأن شخصنته تعني تحجيمه وتحديده بمقدار ما يتسع إدراك ذلك الشخص من فهم وتقوى واستيعاب وتفاعل مع الظروف المحيطة به. فعندما يحصر الإنسان تدينه عن طريق الأشخاص فإن في هذا أولا تعطيل لعقله الذي له قدرة عظيمة على التعرف على الحقائق وتمييزها. فالعلماء وأقوالهم وأفكارهم ليسوا هم الطريق إلى الحق وإنما هم أدلاء وهم من المنارات التي يستهدي بها الإنسان للوصول إلى الحق. فشخصية المتدين المتعلقة بالأشخاص كثيرا ما تأخذ بالإنسان إلى تدين مشوه وغير منسجم مع رؤى الدين الحقيقية.
2- يعتبر المجتمع أحد المرشحات المعتبرة التي تمر عبرها حقائق الدين, فتقاليد المجتمع وعاداته ووعيه وتأثره بالظروف المكانية والزمانية لها سلطة فكرية ونفسية تمنع من وصول أو فهم كثير من الحقائق الدينية على حقيقتها. فجزء كبير من تدين الإنسان ربما يصنعه مجتمعه بما يحويه هذا المجتمع من منظومة أخلاقية وحالة نفسية. والالتفات إلى هذه الناحية، وخصوصا في عالمنا المتقارب جدا يجعلنا نفهم كيف يكون لمتدين في مجتمعا ما أن يكون أكثر انفتاحا من متدين آخر يعيش في مجتمع مختلف ومنغلق على نفسه.
3- صحيح أن الدين في طبيعته ينطوي على قداسة لبعض الأمور ولكن عندما تتسع دائرة هذه القداسة فإنها تحجب النور عن كثير من الحقائق الدينية، وهذا ربما هو أحد الأسباب الرئيسية التي تشوه تدين البعض. فإضفاء نوع من القداسة على اجتهادات السابقين، التي ربما جاءت في سياق الظروف المحيطة بهم يمنع على المتدين أن يوظف ما استجد من أدوات فكرية وغيرها في تعديل الزاوية التي ينظر منها واللغة التي يقرأ بها الأمور في إطار المبادئ والثوابت الدينية.
4- الحاجز المذهبي أو الطائفي, يصطدم التدين في أغلبية الأحيان بما تحدثه المذاهب من أسوار عالية وسميكة مما يجعل المتدين يتقوقع على نفسه وينغمس بشدة في الفكر والثقافة المذهبية. فالمذهبية في مجتمعاتنا تقلص كثيرا من مساحة الحرية وبالأخص عند المتدين في فهمه للدين, فالتدين في إطار منغلق مذهبيا يعطي قداسة للفهم المذهبي على ما يدعو إليه الدين في الأصل. فالتحرر من المذهبية والطائفية يفتح مساحات واسعة وممتدة تعمق من فهم المتدين الصحيح للدين وتخفف كثيرا من الاحتقان والاستقطاب المذهبي؛ وكل هذا يخلق واقعا قادرا على أن ينتج أشكالا من التدين هي أقرب للدين من الأشكال التي تتشكل في الأجواء المحتقنة مذهبيا وطائفيا.
هذه هي بعض المصدات والحواجز التي قد تؤثر كثيرا في فهم الإنسان لدينه وما قد ينتج عن هذا الفهم من تدين, فأول إشكالية أمام المتدين هي الوعي بأثر هذه الأمور على تدين الإنسان, فالمطلوب من المتدين فحص واختبار الكيفية التي في إطارها تتشكل شخصية المتدين.