حرق القرآن.. أم إحراق التسامح؟!

التفاصيل ليست مهمة، الحدث هو الأهم، والحدث المقصود هو دعوة إحدى الكنائس في الولايات المتحدة لإحراق نسخ من القرآن الكريم في 11 من أيلول (سبتمبر) القادم بمناسبة ذكرى أحداث نيويورك وواشنطن حينما دمر برجا التجارة رمز القوة الرأسمالية، وجزء من مبنى البنتاجون رمز القوة العسكرية الأمريكية، بطائرات مدنية، وهو الحدث الذي ما زال يلفه غموض كبير, كأحد أبرز وأهم وأخطر أحداث القرن الـ 21 حتى اليوم.
قرار تلك الكنيسة الإقدام على هذا الفعل إن تم، يكشف عن مدى التعصب الأعمى الذي ما زال يحرك ويسيطر على رؤية دينية مسيحية لُوِّثت بعقائد صهيونية واضحة، ولا أدري إن كانت هذه الكنيسة جزءا من أو تتبنى عقيدة الإنجيليين المسيحيين في الولايات المتحدة، الذين يؤمنون بالأساطير الصهيونية إلى درجة أنهم ربطوا ولاءهم الديني العقدي بكيان العدو الصهيوني ''إسرائيل''، ويرون أن دعمه (ظالما ومظلوما) فريضة دينية قاطعة، وسواء أكانت كذلك أم لم تكن، تبقى دعوتها هي أسوء من عقيدة الإنجيليين، كونها تعديا صارخا على عقيدة دين آخر ووصفه بأوصاف شيطانية لا تليق بثقافات ورؤى وأفكار، فضلا عن دين أكثر من مليار مسلم، جزء منهم أمريكيون.
إذا نفذت هذه الكنيسة فعلتها الشائنة ولم تستطع سلطات الولاية لجمها ومنعها، فالجميع هناك سيكون مسؤولا عما سيترتب على ذلك من استثارة لردة فعل إسلامية داخل وخارج الولايات المتحدة، كون هذه المسألة مهمة وحساسة تتعدى مساحة الحرية التي يتبجحون بها، فلا حرية في المس بدين وعقائد الآخرين، فالقرآن الكريم هو كتابنا المقدس، فلا يمكن تركه لنزوات شاذة وتعصب وكراهية تعبث بقدسيته مهما كانت المبررات.
ماذا علينا أن نفعل؟ هذا هو السؤال المطروح الآن، لقد تجاوزنا وبكل أسف عن تعديات كثيرة بعد أحداث أيلول (سبتمبر)، مثل ربط الإسلام بالإرهاب، وسكتنا عن إساءات كثيرة حتى وصلت إلى رسولنا وقدوتنا عليه الصلاة والسلام، بسبب حملة إعلامية غربية ودينية مسيحية حوّلت أحداث أيلول (سبتمبر) من حالة فردية ورؤية شاذة نسبت للدين الإسلامي، إلى تهجم شامل على الإسلام والمسلمين، وكان علينا منذ البداية مواجهة ذلك كمسلمين، حكومات وهيئات ومؤسسات، بوصفه تطرفا دينيا ونزعة عنصرية تحديدا، وأن ما تعرض له الإسلام والمسلمون هو وجه من أوجه الإرهاب، كونه يرسل إشارات بالانتقام من المسلمين عموما بصفتهم مسؤولين عن أحداث أيلول (سبتمبر)، وهذا قمة التطرف والإرهاب والعنصرية التي أرادوا جعلها سمة الإسلام والمسلمين حصرا.
حين تأتي مثل هذه الكنيسة وقسها المتخلف بهذه الدعوة الشاذة، فإنهم يريدون صب الزيت على نار الادعاء بأن الإسلام هو دين إرهاب وعنف في وقت كنا نظن فيه أنه تم تجاوز تلك المرحلة الأكثر سوءا في العلاقة الدولية، وأنه قد طويت صفحة الرؤية السوداء للمحافظين الجدد إبان ولايتي بوش الابن، التي حل محلها رؤية عالمية جديدة واعية أرست مبدأ التحاور بين الثقافات لإطفاء نيران تطرف كاد أن يعصف فعلا بالسلم العالمي بين الأديان والثقافات من خلال شن الحروب على العالم الإسلامي باسم محاربة الإرهاب، والتي وصفها البعض بأنها صورة من صور الحروب الصليبية، إلا أن وجود مثل هذه الجيوب المتعصبة والمتزمتة التي تحركها كراهية الآخرين المختلفين عنهم، يتسبب فعلا في عرقلة جهود التآخي الإنساني على القاعدة القرآنية ''لكم دينكم ولي دين''.
الملاحظة اللافتة للنظر في هذه المسألة، أنه على الرغم من أن مثل هذه الدعوة الشاذة جاءت من جهة دينية مسيحية في الولايات المتحدة تحرض وتدعو للتعدي الصارخ والعلني والفج على معتقد دين آخر والإساءة والمس بأهم مقدساته وهو كتابه المقدس في تصرف يتعدى وصفه بالتعصب والتشدد إلى وصفه بالعداء والكراهية، إلا أننا لم نسمع بأن هناك جهات غربية مسيحية وسياسية كالفاتيكان أو الكنائس الكبرى أو الحكومات والأحزاب، أعلنت رفضها واستهجانها هذا التصرف، وأدانته بصفته يتسبب في استثارة الكراهية والعنف بين الديانات من ناحية، ومن ناحية أخرى، تعارضه مع أهم منجز عالمي تحقق بعد أحداث أيلول (سبتمبر) عالج بحكمة آثارها وانعكاساتها السلبية، ومنها محاولة تيار ديني متزمت مثل ''المسيحية الصهيونية'' بقيادة ما عرف بـ (المحافظين الجدد) لتوظيفه لمحاربة دين آخر باسم الإرهاب، وهو المنجز الذي أعاد العقل والتعقل للعلاقة الإنسانية بين الأديان والثقافات بمشروع حوار الثقافات والأديان الذي تبنته المملكة برعاية مباشرة وشخصية من الملك عبد الله بن عبد العزيز، والذي لقي تجاوبا عالميا واسعا، بل أطبق عليهم الصمت ما عدا أصوات غير مؤثرة، وإن كانت مقدرة مثل موقف أمين عام منظمة ''الأديان من أجل السلام'' ومقرها نيويورك، التي يقدر لها هذا الموقف على الرغم من أنه لم يسمع بهذه المنظمة من قبل، كما أنها لا تعبر تعبيرا واضحا وجليا عن الطرف الآخر الذي تنتمي إليه تلك الجهة التي أعلنت عزمها الإساءة العلنية لمقدس دين آخر، فهذا الفعل المشين لن يكون حرقا لكتاب ورقي، بل هو حرق لمبادئ التسامح والمحبة والتعايش الإنساني السلمي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي