الأخطاء الطبية والتأمين
الخطأ الطبي، هذا الهاجس الذي يؤرق الكثير منا عند حصول عارض صحي لأحد ما يستدعي تدخل الطبيب أو الحصول على علاج من الصيدلي. وأهمية دراسة الأخطاء الطبية والحد منها تكمن في أنها ترد على جسد الإنسان، فتحرمه من أعظم النعم التي وهبها الله له سواء فيما يتعلق بنعمة الحياة أو بسلامة الأعضاء أو الحواس، أو حتى الصورة الجميلة التي صوّر الله بها الجسد الإنساني. ولذلك، فإن الإنسان شديد الحساسية لما يتعرض له جسده من أضرار، والأمر يبدو أكثر صعوبة فيما لو كانت هذه الأضرار ناتجة عن خطأ طبي أو إهمال.
إن الوقوف ضد شيوع الأخطاء الطبية يعتمد في المقام الأول على وعي المريض وذويه بحقوقهم، ثم الشعور بالمسؤولية لدى كل من هو معني بالخطأ الطبي بما في ذلك المستشفى أو المركز الذي حصل فيه مثل هذا الخطأ، أو الجهة الرقابية التي يُفترض فيها حماية المجتمع من مثل هذه الأخطاء. إن تعزيز الحماية الشرعية والنظامية ضد الأخطاء الطبية يكمن في وجود آلية تقاضٍ تقوم عليها جهة قضائية مستقلة وقادرة على استيعاب دعاوى المتضررين، لا باعتبارها ردة فعل عاطفية نتيجة وجود الضرر، وأنها سرعان ما تنقضي أو تنتهي بعدما يعيش المريض واقعه المرير أو يدفُن أهل المريض متوفاهم، وإن الأمر ستحسمه مقولة إن ما حصل هو قضاء وقدر، وإن ما فُقد لن يعود. وإنما باعتبار أن كل ضرر يحصل للمريض نتيجة تدخل طبي هو (خطأ مفترض) يتطلب من الطبيب أو المستشفى إثبات عدم حصوله وإلا فلا مناص عن التعويض والجزاء، لا أن يتم إثقال المريض أو ورثته بأن يحملوا هم عبء إثبات خطأ الطبيب. وكيف لهم ذلك وهم يعيشون واقع المعاناة وكيف لهم ذلك أيضاً وهم لا يستطيعون أن يجاروا قدرة الطبيب بالتنصل من تبعات مسؤوليته المهنية القائمة على اعتبارات علمية بحتة لا يملك أدواتها شخص عادي. كما أن الاستعانة بطبيب لإدانة زميله الطبيب مسألة محفوفة بالمخاطر، فنحن نعلم أن أهل المهنة الواحدة يجاملون بعضهم بعضاً.
إن دخول التأمين مجال المسؤولية المدنية أدى إلى قلب مفهوم فكرة المسؤولية القائمة على الخطأ. ففي السابق كانت المسؤولية المدنية تقوم على فكرة الخطأ والضرر وعلاقة السببية بينهما، وكان القضاء الفرنسي يتشدد ويصر على ضرورة وجود خطأ وضرر وعلاقة سببية بينهما حتى يحكم بالتعويض للمدعي، استناداً إلى قاعدة أن كل خطأ سبّب ضرراً للغير يُلزم فاعله بالتعويض، ذلك أن القضاء في ذلك الوقت ينظر إلى الفرد العادي بقدرته المادية البسيطة على أنه هو الذي سيقوم بالتعويض, ولذلك فلا يتم تقرير مسؤوليته إلا إذا اقترف خطأ مُثبتاً، ثم أخذ القضاء يتنازل رويداً عن فكرة الخطأ لمصلحة فكرة الفعل، فجعل المسؤولية قائمة على الفعل والضرر وعلاقة السببية بينهما.
وشتان عند القانونيين بين فكرة الخطأ وبين فكرة الفعل، وتبعاً لذلك فقد أصبحت القاعدة هي أن كل فعل سبّب ضرراً للغير يُلزَم من صدر عنه هذا الفعل بالتعويض. وسبب هذا التحول لدى القضاء هو أن شركات التأمين هي التي أصبحت ملتزمة في الغالب بالتعويض، وفي هذه الحالة فإنه يكفي الضحية إثبات حصول الضرر وهي مسألة سهلة جداً، وإذا أثبت الضرر فمن باب أولى أن هذا الضرر كان بسبب الفعل فتقوم المسؤولية تلقائيا، وبعد ذلك لا يهم إن أخذ هذا الفعل شكل خطأ أم لا، المهم أن الفعل قد حصل. فيا ترى ما الحال لدينا رغم أن المسؤولية القائمة على فكرة الفعل موجودة في الشريعة ولكننا ما زلنا نركض خلف فكرة الخطأ التي هجرها كثير من الأنظمة القانونية؟ بل نُثقل كاهل المتضررين بإثبات وجود الخطأ، وبالتأكيد فإن شركات التأمين لدينا مسرورة بهذه المهمة الصعبة في إثبات الخطأ والتي تقع على المريض أو ذويه.