كيف نطور العلاقة بين المقاولين وبقية الأطراف؟

تداولت الصحف خلال الأسبوع الماضي خبر قيام مجلس الشورى بدراسة مقترح لجنته المالية بتعديل بعض بنود نظام المنافسات والمشتريات الحكومية، في مسعى تبناه بعض أعضاء المجلس لتأسيس آلية لضمان سرعة صرف حقوق المقاولين، عطفا على ما يشهده الواقع من معاناة كبيرة يعيشها أولئك المقاولون الذي يقومون بتنفيذ عقود حكومية، وهو ما أسهم في وجهة نظر مقدمي مقترح التعديل في تعظيم مشكلة تعثر تنفيذ المشاريع الحكومية. هذا الخبر الذي يؤشر إلى مزيد من العلامات الإيجابية على قيام مجلس الشورى بالدور المأمول منه، خاصة فيما يتعلق بمراجعة وتصحيح وتطوير الأنظمة الحكومية، بالرغم من الطول الملحوظ لدورة مثل هذا الإجراء. هذا الخبر دفعني لكتابة هذا المقال الذي كان عنوانه ضمن قائمة عناوين الموضوعات التي كنت قد أعددتها للتناول في هذه الزاوية، وهي قائمة تطول يوما بعد يوم. وأرجو أن يتسع صدر المسؤولين في الجهات التي يتناولها هذا المقال لما سيتضمنه من رؤى وملاحظات، إذ إنها تنطلق في أساسها من رغبة أكيدة في معالجة المشكلات وتخطي العقبات التي تواجه مسيرة التنمية في بلادنا.
قضية معاناة أطراف العلاقات التعاقدية كافة مع الجهات الحكومية من مقاولين وموردين واستشاريين وغيرهم ممن تأخر صرف مستحقاتهم عن تلك العقود قضية كانت دوما موضع النقد والنقاش، وتسببت في كثير من الأحيان في إيقاع كبير الضرر بالعديد من الشركات الوطنية، وربما تسببت في إفلاس بعضها. والأنكأ، أنها كانت سببا في إيقاع كبير الضرر بالمشروعات والمهام التي تعاقد عليها أولئك المقاولون والموردون، إلى حد أن كثيرا من تلك المشروعات بقي لفترات طويلة منتصبا دون إكمال، وكثيرا من المنافع والمرافق عانت الأمرين من توفير متطلباتها التشغيلية والتموينية. وفي كل الأحوال كان المتضرر في النهاية هو المواطن المتطلع لأن تحقق مسيرة التنمية أهدافها المرجوة. هذه القضية سقطت من أولويات النقاش في الصحف ومحافل الرأي في الآونة الأخيرة، ربما لأن الناس ملوا الحديث في هذه القضية دون جدوى، أو ربما لأن المشكلة أصبحت أقل حدة عما كانت عليه في سنين خلت أيام انخفاض موارد الدولة وزيادة عجز الميزانية، تلك الفترة التي كان فيها صرف حقوق المتعاقدين مع الجهات الحكومية يتأخر لأشهر عديدة، كنا نرى فيها مظاهر سلبية من امتناع العمال وتكدس الشكاوى والقضايا العمالية في أروقة مكاتب العمل وقصور الأداء في المرافق الصحية والتعليمية وغيرها. إلا أن هذا التحسن لم يأت نتيجة لمعالجة حقيقية وفاعلة لجذور المشكلة، بل جاء نتيجة لزيادة موارد الدولة وتحسن قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها التعاقدية تجاه الموردين والمقاولين. وفي الحقيقة، فإن هذه المشكلة ستظل قائمة على الدوام، بل ستكون عرضة للتفاقم حال حدوث أي تناقص في موارد الدولة المالية، لا سمح الله. سبيل المعالجة لهذه المشكلة يتطلب فهما حقيقيا للعقبات والحقائق التي تحيط بواقع الممارسة الفعلية لصرف الحقوق والمطالبات المالية، ويتطلب قبل ذلك إقرارا من الجهات المختصة، وعلى رأسها وزارة المالية، بحقيقة المشكلة وحقيقة مسبباتها التي أعرض هنا لشيء منها، عسى أن يثير هذا العرض الانتباه المفضي للتعاطي الجاد مع هذه المشكلة.
أول عناصر المشكلة هو في طبيعة العقود الحكومية التي لا يمكن وصفها إلا بأنها عقود إذعان غير متوازنة، تحفظ الحق كله للطرف الأقوى في التعاقد، وهو الدولة، وتحرم الطرف الأضعف، وهو المقاول أو المورد، من أبسط حقوقه في الحماية من الخطأ أو التعدي المقصود أو غير المقصود من الأشخاص الذين يشرفون على تنفيذ هذه العقود، إما لضعف قدراتهم أو ربما لقلة أمانتهم. المشكلة، أن هذه العقود التي توفر كل أشكال الحماية للجهات الحكومية في شكل نصوص قانونية تحاصر المتعاقدين، وتدعمها بضمانات مالية وبنكية تقصم الظهر، لم توفر الحماية الكاملة لمشروعات التنمية من التعثر والفشل في بعض الأحيان، بل إنها كانت في أغلب الأحيان سببا مباشرا لتعثر المقاولين في تنفيذ المشروعات نتيجة لكل تلك الإجراءات والمتطلبات الحمائية التي تضعف قدرة المقاولين على الإيفاء بالتزاماتهم التعاقدية.
والمشكلة الأكبر، أن تلك العقود كانت سببا ربما غير مباشر للخروج بواقع صنف المقاولين إلى فئتين، فئة قليلة تملك قدرات مالية عالية مكنتها من الاستئثار بحصة الأسد من المشروعات الحكومية، خاصة الكبرى منها، وفئة هي الأعظم تتنازع الفتات من عقود المشروعات الحكومية، خاصة المشروعات متوسطة وصغيرة الحجم، والتي تشكل الغالب الأعم من مشروعات تنمية المرافق والخدمات، بما في ذلك المستشفيات والمراكز الصحية والمدارس وغيرها. إن معالجة هذه المشكلة لا تتطلب فقط تطوير وتعديل نظام المشتريات الحكومية، بل تتطلب أيضا تطوير وتعديل نماذج عقود المشتريات الحكومية، لتحقيق التوازن المطلوب بين طرفي التعاقد، وتقليل الإجراءات الحمائية المحملة على المقاولين، أو على الأقل تحقيق وسائل حماية لهم من تقصير الدولة في الإيفاء بالتزاماتها التعاقدية. وقد يكون السبيل الأمثل لذلك هو الأخذ بالتجارب العالمية المتقدمة في هذا المجال، والتي تمثل عقود فيديك النموذج الأمثل من بينها.
العنصر الثاني من عناصر المشكلة هو في طبيعة الإجراءات والتعقيدات التي تحيط بمسيرة صرف المطالبات المالية. رحلة المطالبة، أو المستخلص، في سبيل الصرف هي رحلة مضنية معقدة مليئة بالمتطلبات والوثائق والإثباتات والتعهدات والاستجداءات وغيرها الكثير. رحلة يحفها الكثير من المخاطر التي لا تنحصر في مزاج الموظف المسؤول أو مدير المشروع، أو تمتعه بإجازة مدفوعة الراتب بعد قيامه بوضع بعض المطالبات غير المعتمدة في درج المكتب المغلق، أو تذرعه باكتشاف نقص إحدى الوثائق المسوغة للصرف بعد مراجعة الملف للمرة العاشرة، خاصة وأن شهادة السعودة انتهت صلاحيتها قبل يومين فقط، في حين أن المطالبة كانت تحت الإجراء بحوزته لمدة شهرين كاملين.
تصبح الرحلة أكثر خطرا إن كان ذلك الموظف قليل ذمة، وسولت له نفسه الدنيئة أن يساوم الشركة على حصة من تلك المطالبة، وإلا فإنه سيدعي ببساطة فقدان المعاملة، لتبدأ المطالبة تلك الرحلة من جديد. وإذا قيض الله لتلك الشركة موظفا أمينا مخلصا في عمله فربما تمر رحلة المطالبة بعاصفة تعزيز البند، إذ إن مخصصات بند المشروع قد تمت إحالتها أو مناقلتها لبند آخر، وعلى المطالبة أن تنتظر الموافقة على هذا التعزيز من صاحب الصلاحية، الذي قد يكون إما الوزير المختص في تلك الوزارة صاحبة المشروع، أو أنها تتخطى صلاحياته لترفع إلى وزارة المالية، أو أنها من العظم والتعقيد الذي يلزم بأن ترفع إلى المقام السامي.
هذه الرحلة تواجه مشكلة اختلاف الرأي بين الإدارات المختلفة في الجهة ذاتها، فإدارة المشاريع تعتمد المطالبة بعد فحص وتمحيص يأخذ قدره من الوقت والجهد، ثم تحال المعاملة إلى إدارة المشتريات لتأخذ دورة أخرى من الفحص والتمحيص، وكذلك تتم الإحالة بعدها إلى الإدارة المالية في تلك الجهة، وبعدها إلى وزارة المالية للمراجعة الختامية ومن ثم إصدار الشيك، لينتظر تفضل مندوب تلك الجهة بالحضور لاستلام ذلك الشيك، ليقوم بعدها بالرجوع إلى مقر عمله في ذلك الفرع في تلك المدينة النائية من مدن المملكة، ليقوم بعدها بطلب حضور مندوب المقاول لاستلام الشيك، بالرغم من أن مقر عمل المقاول هو في المدينة التي صدر منها الشيك ذاتها في وزارة المالية.
هذه الإجراءات المتتابعة والمتكررة توقع الكثير من الهدر في الوقت والجهد، وتتسبب في تطويل دورة صرف المستحقات، بل إنها تزيد من ثغرات الخلل والفساد عبر زيادة عدد الجهات والأفراد الذين يملكون صلاحية التدقيق وإيقاف المستخلص أو إعادته إلى بداية انطلاق رحلته المضنية. نسيت أن أشير إلى ذلك العنصر الذي يملك الكلمة العليا فوق إرادة كل الجهات مهما كان مستوى اتخاذ القرار بشأن الصرف، ذلك هو الممثل المالي، ذلك الموظف الذي يرفع راية حماية المال العام حتى من أصحاب القرار في كل الجهات الحكومية. هل يعلم أحد أن الممثل المالي يملك الحق في إيقاف قرار وزير ما في أية وزارة؟
أختم هنا بمقارنة بسيطة تبرز حجم التناقض الذي نعيشه في تعاطي أجهزة الدولة مع مسألة الحقوق. فالمقاول الذي يؤخر صرف مرتبات عامليه تتم معاملته معاملة المجرمين، وتتخذ بحقه أقسى الإجراءات العقابية، من إقفال الحاسب الآلي في مكتب العمل، أو وقف صرف مستخلصاته المالية، أو غيرها الكثير من الإجراءات التي تتم دون أدنى تحقق أو تحر عن سبب هذا التأخير من قبل المقاول، في الوقت الذي تكون للمقاول ذاته مطالبات مالية تحت الإجراء المعقد في رحلة الصرف الطويلة. لا أدافع هنا عن المقاولين الذين يؤخرون صرف حقوق ورواتب العاملين، فهذه بالتأكيد حقوق واجبة الصرف، والعاملون أبرياء من كل المسببات التي تؤخر صرف حقوقهم. ولكني أدعو إلى تحقيق التوازن المطلوب في هذه المعادلة، والعمل على تطوير الآليات وتبسيط الإجراءات التي تسهل وتسرع صرف مستخلصات المقاولين، وتوقع على أجهزة الدولة المستوى ذاته من المساءلة في حال وقوع مثل ذلك التأخير غير المبرر. كل ما أدعو إليه هو تحقيق مبدأ المساواة في التعامل والمعاملة بالمثل، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ''أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي