إذن.. أين الخلل يا مولاي؟

سوف أبدأ مقال اليوم بثلاثة تصريحات خرجت بها الصحف المحلية في نفس يوم الإثنين 18 شوال 1431هـ الموافق 27 أيلول (سبتمبر) 2010م لأهميتها ولمقام من قالها أيضا. الأول كان تصريح خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، حفظة الله. هذا الملك الذي حرك مياها كثيرة راكدة وبشكل أجبر الجميع على أن يعملوا حتى تصفو المياه ولا خيارات أمامنا إلا العمل بكل الطاقات الممكنة! فالتحديات جسام داخليا وخارجيا. فقال - حفظه الله - بعد تلقيه تقرير مؤسسة النقد رقم 46 الذي سُلم له من قبل وزير المالية ومحافظ مؤسسة النقد العربي السعودي: ''الأيام المقبلة تبشر بالخير .. ولسنا قانعين بما عملناه إلى الآن''. الجدير بالذكر - وهنا بيت القصيد - أن الإنفاق الحكومي وصل خلال السنوات الأربع الماضية إلى ما يزيد على تريليوني ريال، إضافة إلى ما حواه التقرير من إنجازات على مختلف الأصعدة خلال العام المالي 2009م. فالخير فعلاً كثير ولله الحمد والمنة. ويتضح هذا اليوم من معدلات الصرف لدى الجهات الحكومية، فالأيدي مفتوحة بشكل واضح لكل نواحي الصرف!
وفي مقام آخر وخلال افتتاح الندوة العلمية الأولى لكرسي الاعتدال في جامعة الملك عبد العزيز يوم الأحد 26 أيلول (سبتمبر) 2010م، قال النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز - حفظه الله-: ''ينبغي ألا يكون في المملكة عاطل ولا فقير''، مذكرا بمقولة للملك فيصل بن عبد العزيز، يرحمه الله، وهو أمر منطقي وحقيقي إذا أخذنا حجم الثروة التي أنعم الله بها علينا والفرص المتاحة في اقتصاد المملكة.
وبمناسبة تقرير مؤسسة النقد الذي سلم للملك، ذكر معالي الدكتور محمد الجاسر، محافظ مؤسسة النقد في مؤتمر صحافي ''أن الناتج المحلي الإجمالي سيكون خلال العام الحالي أفضل، مرجحاً نمو ذلك الناتج ليصل إلى 3.5 في المائة، بالنظر إلى قوة النشاط الاقتصادي الذي تشهده الساحة المحلية أخيراً، مشيرا إلى أن السياسات المالية والنقدية التي وصفها بـ ''الحصيفة'' أسهمت في تجنيب الاقتصاد السعودي مخاطر الأزمة المالية''. فقد بلغ الناتج المحلي للمملكة بالأسعار الجارية 1.4 تريليون ريال نصيب الفرد من هذا الناتج نحو 55535 ريالا ! بمتوسط دخل شهري يبلغ 4.627 ريال بعدد 25.37 مليون مواطن. وهذه تمثل المؤشرات الكلية للاقتصاد السعودي حتى نهاية العام 2009م. وكلها مؤشرات جيدة وطيبة وتبشر بالخير.
حتى إن هذا الخير وصل إلى خارج المملكة نتيجة دينامكية وانفتاح اقتصادنا أمام ملايين العاملين المستقدمين من الخارج، فقد بلغت تحويلات العاملين في المملكة من كافة الجنسيات في نهاية العام 2009م نحو 94.5 مليار ريال، مشكلة نسبة نمو تجاوزت 66.7 في المائة مقارنة بالعام 2001م، حيث كانت 56.7 مليار في ذلك العام. كما وصل إجمالي مساعدات المملكة الخارجية منذ العام 1991م حتى نهاية العام 2009م ما يربو على 135 مليار ريال. مما يعني أن الخير فاض للخارج وليس فقط على الداخل.
وفي نفس هذا الوقت والتوقيت، نجد أن هناك واقعا يقول إن لدينا فقرا، بل استطعنا تصنيفه إلى مدقع، ومطلق، ونسبي! حتى وإن اختلف الفقهاء في نسب هذا الفقر، كما اختلفوا فيما إذا كان تم القضاء عليه أم لا! وفي هذا الصدد، هناك دراسات محدودة منها دراسة للدكتور راشد بن سعد الباز، يرى صعوبة تحديد دقيق لمستوى الفقر في السعودية لارتباطه بعدد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والصحية والبيئية، وإن كان حدد مستوى الكفاف للمواطن السعودي بمبلغ 1660 ريالا، وخط الفقر بمبلغ 1120 ريالا.
ولكن سوف آخذ الأرقام الرسمية بعيدا عن الدراسات ووجهات النظر على أرض الواقع ونناقشها. فعندما يكون متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي (وليس الثروة العامة) بنحو 4.627 ريال شهرياً، وأيضا متوسط الدخل الحقيقي للفرد بناء على معلومات العاملين في القطاع العام لا يتجاوز 6000 ريال للفرد. في حين أننا نعيش ومنذ سنوات نسب تضخم تعد عالية مع العلم أنه لا يوجد معدل تضخم مستهدف تعمل الحكومة على الوصول إليه. فقد بلغ متوسط معدل التضخم السنوي خلال السنوات الخمس الماضية (2005م إلى 2009م) نحو 4.4 في المائة، أي بمعدل تراكمي 22 في المائة خلال خمس سنوات، يعني أن المواطن الذي لديه الحد الأدنى من متوسط الدخل انخفضت القوة الشرائية لديه بنسبة 22 في المائة. وبالتالي من الصعوبة أن نجد انعكاسا إيجابيا لهذا الخير والثروة على أرض الواقع فيما يخص مستويات المعيشة المستقرة!!! كما أن العاطلين عن العمل يتجاوزن 14 في المائة! وهي نسبة عالية لبلد في هذا الخير وهذا النمو الكبير في كثير من قطاعاته.
هذه دلالة وجود خلل واضح في حركة الاقتصاد، فهناك عاطلون (14 في المائة) وفقراء بشهادة أيضا الملك ونائبه الثاني، بل فقر مدقع (نسبة غير معروفة)! لدينا تذمر واضح، ولدينا زحمة، ولدينا نقص في كل الخدمات المقدمة وتدن في مستويات تلك الخدمات سواء المقدمة من الأجهزة الحكومية أو من القطاع الخاص! رغم أن لدينا مستويات إنفاق عالية تجاوزت تريليوني ريال خلال أربع سنوات فقط (بمعدل إنفاق سنوي يفوق 500 مليار ريال). وحتى لا يكون الكلام عاماً، لنأخذ حجم الإنفاق على قطاعي الخدمات الصحية والتعليمية، كما ورد في تقرير مؤسسة النقد العربي السعودي للعام 2009م وحده، فقد بلغ مجموع ما رصد وأنفق أكثر من 184 مليار ريال. وللمعلومية، ورغم زيادة حجم الإنفاق الذي أعلنه الملك قبل سنتين إلى 400 مليار دولار خلال السنوات الخمس ، وهو ما هو واضح من خلال المشاريع الضخمة، إلا أن هذه المليارات لم تنعكس على الاقتصاد لأن معظمها مشاريع عقارية وتوسع تقوم بها شركات عقارية ذات ملكية فردية وقائمة على عمالة مستقدمة من الخارج! وبالتالي لا تدخل هذه الأموال التي تنفقها الدولة في الدورة الاقتصادية، ولا يستفيد منها إلا ملاك تلك الشركات، عمالة تقوم بتحوليها إلى خارج المملكة. وليتها على أقل تقدير ملكية عامة، وبالتالي يستفيد من أرباحها أكبر شريحة ممكنة من المستثمرين الأفراد مثلا.
وهذا يثير سؤالا كبيرا نحن بحاجة إلى فتح نقاش حقيقي حوله، وهو في كيفية التأكد من انعكاس أثر هذه الثروة على الوطن والمواطن بشكل إيجابي. أرجو أن لا أفهم على أننا نرغب في تحويل المملكة إلى جمعية خيرية والمواطن هو عضو هذه الجمعية ويجب أن يكون المستفيد منها! ولكن علينا أن يكون لدينا نموذج واضح للاقتصاد السعودي في هيكله العام. فهل نحن اقتصاد قائم على نموذج خاص فيه (أنا لا أعرفه ولم أستطع ترجمته إلى نموذج معين!) على غرار النماذج الأخرى القائمة على المسؤولية الاجتماعية للدولة كدول رفاهية كاملة، من خلال آليات واضحة لتوزيع الثروات داخل الاقتصاد على أسس واضحة (بغض النظر عن مدى عدالتها)؟!! والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي