العمارة الخضراء بين الحلم والحقيقة
شهدت مدينة الرياض الأسبوع الماضي فعاليات المنتدى السعودي للأبنية الخضراء، الذي تم تنظيمه تحت رعاية وزارة الشؤون البلدية والقروية، ومشاركة فاعلة من وزارة المياه والكهرباء. وعلى الرغم من أهمية موضوع المنتدى وعنوانه، خاصة في ظل ظاهرة الهدر في الطاقة والبناء التي نعيشها في المملكة، إلا أن المنتدى لم يحظ بما كان يستحقه من حضور، خاصة في ظل غياب واضح للمؤسسات التعليمية والجامعية من جهة، والعديد من الجهات الحكومية ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بهذه القضية من جهة أخرى، ومنها على سبيل المثال هيئة الأرصاد والبيئة، وهيئة المواصفات والمقاييس، وكذلك وزارة المالية التي تعد الموظف الأهم لقطاعات البناء والتشييد في المملكة، ناهيك عن غياب فاضح لمؤسسات القطاع الخاص العاملة في قطاع البناء، بما فيها شركات المقاولات والمكاتب الاستشارية الهندسية، وشركات التطوير العقاري الكبرى منها والصغرى. هذا الغياب كان ـــ في وجهة نظري ـــ دليلا على حجم الاهتمام المتدني بهذه القضية الحيوية، وغياب الفهم والوعي بأهميتها وانعكاساتها على جودة عملية التنمية من جهة، وترشيد تكاليف استهلاك موارد الطاقة وغيرها من الموارد الحيوية الأخرى. هذا الواقع دفعني إلى كتابة هذا المقال، الذي آمل أن يكون له شيء من الأثر في جذب الاهتمام لهذه القضية المهمة.
لن أتحدث هنا عن تاريخ العمارة الخضراء ونشأتها ومفهومها؛ فالمعلومات عن هذا المصطلح متوافرة على مواقع الشبكة العنكبوتية ومصادر المعلومات المختلفة لمن أراد أن يغوص في أعماق هذه القضية. ما أريده هنا هو أن أستعرض أوجه الخلل في التعاطي مع صناعة البناء، وإبراز الحاجة الملحة إلى تبني مبادئ العمارة الخضراء في مشروعات التنمية. ومفهوم العمارة الخضراء مفهوم شمولي، يتضمن منظومة من العمليات والإجراءات والتطبيقات في صناعة البناء تفضي في مجملها إلى رفع كفاءة مشروعات التنمية، والحفاظ على البيئة، وترشيد استهلاك الطاقة والمياه وغيرها من الموارد الطبيعية والحيوية، وتخفيض تكاليف الصيانة والتشغيل، وغيرها من المكتسبات المهمة. والحقيقة، أن مشروعات التنمية التي تشهدها المملكة في القطاعين العام والخاص أبعد ما تكون عن تبني هذا المفهوم، إذ نشهد في هذه المشروعات الكثير من أشكال الهدر في كافة المستويات، بما في ذلك استخدام مواد بناء مكلفة وغير صديقة للبيئة، وأنظمة بناء تقليدية عفا عليها الزمن، علاوة على ما نشهده من تدمير للبيئة الطبيعية في كثير من المشروعات، والهدر في استخدام المياه والطاقة. والحقيقة أن مبادئ العمارة الخضراء تتخطى التعامل مع هذه المظاهر من الهدر الاقتصادي، لتشمل أيضا مظاهر أخرى من الهدر الثقافي والحضاري، التي تشمل قضايا الهوية العمرانية والانسجام مع مبادئ الثقافة الاجتماعية المحلية، وهي المبادئ التي تعد في أسفل قائمة أولويات مؤسسات التطوير والبناء العامة والخاصة.
السؤال الذي يطرح نفسه، وكان محل جدل في أروقة المنتدى وجلساته، هل تبني هذه القضية من مسؤولية الدولة أم القطاع الخاص أم المواطنين الأفراد؟ والحقيقة أن هذه المسؤولية منوطة بكل قطاعات المجتمع وفئاته ودرجاته، لكن الحقيقة الأهم هي أن دور الدولة ومؤسساتها في هذه القضية على وجه الخصوص دور محوري وأساسي. أولا لأن الدولة ـــ كما قلت سابقا ـــ المطور الأكبر في عملية التنمية والبناء في المملكة، وثانيا لأن الدولة هي المختصة بوضع التشريعات والأنظمة واللوائح التي يمكن أن تؤصل تطبيق هذه المفاهيم والمبادئ، وثالثا لأن الدولة هي المسؤولة عن وضع سياسات التعليم، وهو المكان الأمثل لغرس القناعات بهذه المبادئ وغيرها في عقول وضمائر النشء، عسى أن يكونوا في مستقبل الأيام أفضل حالا من جيلنا الحاضر. الجانب الأهم والأخطر ـــ في رأيي ـــ مسؤولية الدولة في أن تكون النموذج الذي يجب أن يحتذى في كافة قضايا المجتمع. وفي جانب قضية العمارة الخضراء وترشيد الطاقة والمياه وغيرها من المظاهر ذات العلاقة، لا يمكن للدولة أن تقوم بهذا الدور في الوقت الذي نشهد الكثير من الممارسات المبتذلة، التي تؤشر إلى تناقض واضح ومخل في تعاطي الدولة مع قضية الطاقة والمياه وعناصر العمران الأخضر. صورة المباني الحكومية والعامة التي تشع بأنوارها الساطعة وأبوابها مغلقة خارج ساعات الدوام تتناقض مع دعوة شركة الكهرباء لترشيد استهلاك الطاقة الكهربائية، ومنظر المياه المنسكبة من صهاريج المياه التي تجوب الشوارع لري النباتات يتناقض مع حملة وزارة المياه والكهرباء التي جابت البيوت بيتا بيتا لترشيد استهلاك المياه، والأمر ذاته ينطبق على الكثير من الجوانب والمظاهر ذات العلاقة بمبادئ العمارة الخضراء. ومن هنا أقول إن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على الدولة، إذ لا يمكن أن نحقق تطبيقا عمليا لهذه المبادئ إلا بالقدوة والتحفيز والتوعية، وليس بالقوة والفرض والتهديد.
المنتدى ذاته كان معبرا عن تخلي الدولة عن دورها في هذه القضية، ليس فقط عبر الغياب الواضح عن حضور جلسات المنتدى، لكن عبر الضعف الواضح الذي ظهرت به المؤسسة الوحيدة العاملة في المملكة في هذا المجال. أشير هنا إلى المجلس السعودي للمباني الخضراء، الذي تأسس قبل سنوات قليلة بجهود ومبادرات فردية من عدد من المهندسين الغيورين على موارد الوطن. وعلى الرغم من أن هذا المجلس حظي برعاية كريمة من رئيس هيئة الأرصاد والبيئة برئاسته الفخرية له، إلا أن المجلس ما زال حتى الآن يفتقر إلى الدعم الرسمي لقضيته، وما زال يستجدي الدعم والتمويل من الشركات ورجال الأعمال الذين لم يضعوا بعد هذه القضية ضمن أجنداتهم الإعلامية والترويجية. ما زادني حسرة في ذلك المنتدى هو ذلك النموذج الرائع الذي قدمه بعرض التجربة القطرية في هذا المجال، وهي تجربة رائدة بكل المقاييس على مستوى الوطن العربي كله، أجزم أنها ستجعل من هذه الدولة الصغيرة على الخريطة علامة بارزة في مجال العمارة الخضراء والحفاظ على الطاقة والمياه. والأهم في هذه التجربة هو مقدار الدعم الرسمي الذي حظيت به من أجهزة الدولة المختلفة، والتبني والدعم والرعاية من كبريات الشركات القطرية. كل ما أرجوه أن تثير هذه التجربة فينا شيئا من الغيرة الإيجابية، لنرفع راية الدعم والرعاية لهذا المجلس الواعد، وهذه القضية الحيوية، لتحتل مملكتنا موقع الريادة في هذا المجال، كما اعتادت أن تكون في كثير من المجالات المهمة. ومن منطلق اقتصادي بحت، علينا أن نتذكر أن كل برميل نفط نستهلكه هو برميل لم نبعه. ويكون بذلك استهلاكنا المهدر للطاقة مهدرا لمواردنا الاقتصادية الحيوية والمالية، وهو ما يبتعد كل البعد عن دعوة قائد المسيرة للحفاظ على النفط للأجيال القادمة.