ما المعادلة الاقتصادية العادلة لتوزيع الثروة الوطنية؟
أثار مقال الأسبوع الماضي واحدا ممن أعَزُّ عليهم، وله مقام ومكانة كبيران في نفسي، أثار سؤالا كبيرا بحجم هذا البلد وأهله الخيرين وبحجم الخير الذي أنعم الله به علينا. وأنا أعرف أن مثل هؤلاء الأشخاص لا يتحدثون إلا عندما يكون الحديث مطلباً، ويصمتون عندما يكون الصمت فضيلة. قال ''إنك وفي هذا المقال (يقصد مقال ''إذن أين الخلل يا مولاي'' المنشور يوم الأحد الماضي، الموافق 24 (تشرين الأول) أكتوبر 2010) أثرت كثيرا من الأسئلة، ولم تعط إجابات وهذا طبيعي! ولكن يبقي السؤال الكبير الذي لم تثيره، وقد رماه على أكتافي ثم مضى في صمت وسمت الكبار فقط. قال بالحرف ''ما المعادلة الاقتصادية العادلة لتوزيع الثروة الوطنية؟!''.
قلت حرام عليك يا شيخنا العزيز، هذا ليس بسؤال، لكنه أم الأسئلة أو أم القضايا، ليس اليوم ولكن منذ بداية الحضارة الإنسانية وتكوين البشر للتجمعات!! وأنا كما ترى غر لا أستطيع إلا أن أبحث وأناقش، وأعتقد أن لا أحد يملك الإجابة، بل نحتاج إلى فريق كامل من ''الحكماء'' الذين عليهم بداية البحث عن إجابة أو إجابات. ثم قلت: هل تعلم يا سيدي أن القارئ لسيرة الخلفاء الراشدين الأربعة على وجه التحديد يجد أنهم لم يتفقوا على إجابة واحدة لهذا السؤال، وهذا واضح من التطبيق العملي على أرض الواقع لحياة وإدارة كل واحد منهم لظروف حكمه! فما بالك بالعصور اللاحقة منذ ذلك الحين حتى اليوم!
لكن حتى نكون في نطاق الواقع العملي لهذا العصر بعيداً عن التنظير والنماذج، لنأخذ التجربة العالمية خلال 200 سنة التي خلت بصورة عامة، بهدف تلمس شكل المعادلة أو إثارة مزيد من التساؤلات للوصول إلى صورة مأمولة وتحديداً منذ عام 1803 إلى 2101م. وقد بدأت من خلال حروب نابليون والانتصار البريطاني عليه في الفترة من 1803 إلى 1815م، إلى بداية الأزمة المالية العالمية الحالية 2007م. هذا هو الشكل السائد، الذي عرف بالرأسمالية الغربية، وهي النموذج المسيطر على اقتصاديات العالم.
وحسب كتاب جديد تحت عنوان ''الرأسمالية الرابعة'' للكاتب أنتوني كالتسكي، حيث يحاول إثبات أن القيادة للرأسمالية ستستمر للغرب إذا ما..! وحدد شروطا لذلك التفوق، وإلا خسروا المعركة. فقد حدد أربعة أزمنة مختلفة لأربعة أنواع من الرأسمالية خلال الـ200 سنة الماضية، وهذا واضح من عنوان الكتاب، حيث بدأت المرحلة الأولى من الرأسمالية من خلال الرأسمالية الصناعية بعد فوز المملكة البريطانية في حروبها مع نابليون بونابرت، التي استمرت حتى بداية الحرب العالمية الأولى، وبداية الثورة الروسية حتى مسمى الاشتراكية والأفكار الاشتراكية المعروفة ثم الكساد الكبير في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1930م. المرحلة الثانية من الرأسمالية استمرت أكثر من 40 سنة حتى 1960/1970م وحالة التضخم الكبير خلال تلك السنوات العشر، لتأتي الحقبة الفاصلة وهي المرحلة الثالثة، التي لا نزال ندفع أثمانها اليوم، وهي حقبة مارجريت تاتشر وريجان (1980م) اللذين دفعا بفكرة الأسواق الحرة، وكفاءة السوق ليعمل دون تدخل من الحكومات!
وفي تلك الحقب الثلاث ترسخ فيها مفاهيم الرأسمالية وإدارة الثروة، بل خلق الثروة من لا شيء من خلال الإسراف في التمويل وقبل ذلك تعويم العملة ورفع فكرة الغطاء الذهبي للعملات. وقد يكون هذا ما يميز الحقب الثلاث، وهي الحقبة الأكثر دموية بالمفهوم المالي والاستنزاف المالي، حيث ظهر الجشع الرأسمالي في أقصى حدوده دون أدني رادع على المستوى الدولي لحساب دول معنية، وإن كانت قد تميزت بما يعرف بالإبداع الإنساني في إيجاد الحلول المبتكرة على جميع الأصعدة للبشرية. وبالتالي يرى كثيرون أن الأزمة المالية التي حدثت أخيراً 2007/2009م ستكون مفصلية في إعادة التفكير في مسيرة الرأسمالية الباقية حسب المفهوم الغربي لها، التي بدأت منذ العام الحالي تتشكل ملامح جديدة لها تأخذ في الاعتبار الأخطاء السابقة والحاجات المستقبلية للدول المسيطرة على اقتصاد العالم.
إذاً، نحن ومنذ بداية عام 2010م، بدأت حقبة جديدة تتشكل تدريجيا، ستختلف نتائجها عن كل الحقب السابقة، ويصعب على الجميع الجزم بالشكل النهائي لهذه الحقبة، حيث تنازعها عدد من الأبعاد في تشكليها، فهنالك البعد الاقتصادي البحت، والبعد الدولي من خلال منظمات المجتمع الدولي العالمية، وقوى الضغط المشكلة لها متشكلة من العمق والبعد الاجتماعي والثقافي للمجتمعات. وفي البعد السياسي وهو الأخطر والأهم في فرض شكل وجنس الجنين الجديد. عملياً، يصعب الفصل بين البعدين الاقتصادي والسياسي تحديداً، ويمكن معرفة حجم الداخل من خلال معرفة كيفية عمل اللجان والاجتماعات الاقتصادية، حيث إن المعلن شيء فيما تبقى الأجندة الخاصة شيئا آخر مختلفا تماماً. وهو موضوع معقد وقد بدأت وستزداد حدة الحروب بمسميات مختلفة وأهداف واحدة، وهي فرض السيطرة الاقتصادية السياسية للمرحلة القادمة، حيث لدينا اليوم حرب العملات على سبيل المثال! ففي مقابل دول تشعر بأنها بدأت تخسر السيطرة، هناك دول تسعى لمزيد من القوة في طريقها إلى السيطرة على مقدرات العالم.
ويبقى السؤال المهم أين الإنسان من كل تلك المتغيرات، وما هي فعلا المعادلة المناسبة له في الحصول على حقوقه من الثروة الوطنية أو حتى العالمية؟ فالمطالب اليوم ليست في الثروة الوطنية، بل في الثروة العالمية وحق الجميع في العدالة الاقتصادية للعيش بكرامة هو موضوع عالمي ويناقش في كثير من المحافل الدولية.
أين نحن اليوم من هذا وذاك؟ هل لدينا القدرة اليوم- والفرصة موجودة- من خلال الأزمة المالية التي يعيشها العالم والغرب بشكل خاص، أن نحاول وضع بصمات إنسانية على اقتصاد العالم من خلال تشذيب الرأسمالية وجعلها أكثر إنسانية؟ وأنا هنا لا أقصد ''أسلمة الرأسمالية الكافرة''، كما حاول البعض من خلال طرح حلول في لي أعناق للنصوص في سبيل تعظيم ثروة كثير من اللصوص. فأنا لا أزال أعتقد أن الرأسمالية الغربية، مفهوماً وتطبيقاً، أفضل من الحلول التي يقال عنها إسلامية اليوم! فإن كان ''الربا'' محرما، وهو أمر لا جدال فيه، فإن الحلول البديلة فيها استغلال أكثر من الربا المحرم شرعاً ومنطقاً!
أملي أن يكون لدينا مراكز بحث بعيدة عن المسميات والشعارات يكون هدفها الأساس إيجاد المقترحات العلمية والعملية التي تتعامل مع الواقع ومع النسق الدولي، وبدلا من التأثر بالعالم الخارجي نحاول التأثير فيه، وبدلاً من أن يكون لدينا هياكل اقتصادية مشوهة نتيجة الترقيع والتعديل يكون لدينا مفاهيم خاصة من منطلقات محلية. ولنأخذ النموذج الصيني الصاعد، وقبله النموذج الماليزي حتى النموذج الهندي والبرازيلي اليوم. فكل تلك الدول استطاعت تطوير مفاهيمها الخاصة آخذة من المجتمع الدولي أفضل ما يناسبها، وشذبت الجوانب التي قد لا تناسب مقام ومقاس تلك الدول، حتى إن كان ذلك لا يرضي ''الأنجلوسكسونيين''. والله من وراء القصد.