فك ارتباط الأرض بالقرض .. قرار في الوقت الضائع

لم أعد قادرا على ملاحقة الأحداث في عالم الاقتصاد السعودي, وقائمة عناوين المقالات أصبحت تطول يوما بعد يوم. وكلما قررت اقتطاف أحد تلك العناوين للكتابة حوله وجدت أمامي قائمة جديدة بأخبار وأحداث مستجدة تتطلب التفاعل الفوري معها. آمل ألا يطلب مني القائمون على تحرير الصحيفة أن أتحول إلى كاتب يومي, ولن أقبل إن طلبوا, لئلا يمل القراء من إطلالة قد يبدو للكثيرين منهم أنها إطلالة تشاؤمية, لكنني أصفها بالواقعية. إذ إننا لن نتمكن من معالجة مشكلات مجتمعنا إن لم ننظر لها بعين الواقعية بعيدا عن التجميل والتسطيح والتطبيل. آخر هذه المستجدات هو قرار مجلس الوزراء الموقر إلغاء شرط توفير الأرض للتقدم بطلب الحصول على قرض صندوق التنمية العقاري, وهو قرار له من الأهمية والتأثير ما جعلني أضعه على رأس قائمة العناوين, وأخصص للحديث عنه مقال هذا الأسبوع, وربما سيلا آخر من المقالات حسبما أجده من تفاعل من الإخوة القراء.
كان اشتراط توفير الأرض ضمن مسوغات التقديم لطلب قرض صندوق التنمية العقاري محل نقد ومناقشة من كثير من المتخصصين والكتاب على مدى سنين طويلة, وكنت دوما أشير إلى الآثار السلبية لهذا الإجراء في مقالاتي السابقة التي تحدثت فيها عن صندوق التنمية العقارية. أهم تلك الآثار التي عالجها قرار مجلس الوزراء هو قتل تلك السوق السوداء التي نشأت للتداول الصوري للأراضي, الأمر الذي أدى إلى شيوع ثقافة المضاربة في أراضي المنح على وجه الخصوص, وكان أحد المسببات المباشرة لارتفاع أسعار الأراضي بشكل عام, والسكنية منها بشكل خاص. وجاءت ردود الأفعال على هذا القرار إيجابية بالمطلق, انطلاقا من قناعة سائدة بهذا الخطأ الذي ظل لفترة طويلة محل مناداة الكثيرين بضرورة معالجته. ولست هنا منكرا لأهمية هذا القرار أو تأثيره الإيجابي في معالجة هذا الخلل, بل إنني أزيد بالقول إن هذا القرار سيكون له كبير الأثر في إعادة تشكيل خريطة السوق العقارية, عبر إخراج الكثيرين من أدعياء العمل العقاري من هذه السوق, وهم من اتخذوا من المتاجرة بالأراضي مهنة احترفوها للتربح السريع, دون أن يلقوا بالا لمقدار الضرر الذي يوقعونه بهذه السوق. لكن هذا القرار, وعلى الرغم من كل الجوانب الإيجابية التي يحملها, إلا أنه أتى ــ في رأيي ــ في الوقت الضائع, علاوة على أنه أتى مبتورا عن مجمل المعالجة التي كان الجميع ينادي بها لحل مشكلات قضية الإسكان, والآثار السلبية لأنظمة صندوق التنمية العقاري على هذه القضية. وأعرض فيما يلي رؤيتي المتواضعة حول هذا الطرح, عسى أن تسهم في الجهود الرامية لمعالجة هذه المشكلة, استنادا إلى التكليف الذي تضمنه القرار لصندوق التنمية العقاري لدراسة نظام الصندوق تماشيا مع أنظمة الهيئات والجهات ذات العلاقة بهذه القضية, والرفع بشأنها إلى مقام مجلس الوزراء الموقر لاتخاذ القرارات الملائمة بشأنها.
قلت إن هذا القرار أتى في الوقت الضائع, فالضرر الذي أوقعه ذلك الشرط الذي ألغاه القرار قد استفحل واستشرى وجعل واقع مشكلة ارتفاع أسعار الأراضي واقعا مريرا بالفعل. والمشكلة أن القرار جاء متأخرا بالنظر إلى قدم الحديث عن هذا الخلل, حيث إن النقاش الدائر حول هذا الموضوع امتد سنوات طويلة, لم يجد خلالها الاهتمام الكافي والتفاعل السريع لمحاصرة الآثار السلبية التي أحدثها. وبالتالي, فإن هذا القرار مع أنه سيوقف استمرار تلك الآثار, ويحد من الاتجاه التصاعدي لأسعار الأراضي, إلا أنه لن يحول اتجاه تلك الأسعار للهبوط على المدى القصير, خاصة في ظل تنامي الطلب على الأراضي والوحدات السكنية, وانحسار جهود تطوير الأراضي من قبل المطورين العقاريين, وبالتالي انحسار العرض في هذا القطاع من السوق. صحيح أن صدور القرار متأخرا أفضل من عدم صدوره مطلقا, إلا أن معالجة الآثار السلبية التي نعيشها تتطلب منظومة أخرى من القرارات والإجراءات التي يلزم صدورها بشكل عاجل, وعلى رأسها تبني فرض رسوم على الأراضي الفضاء المخدومة داخل النطاق العمراني, ناهيك عن تحصيل الزكاة الشرعية عن تلك الأراضي المختزنة بغرض التجارة وتصعيد الأسعار.
قلت أيضا إن هذا القرار جاء مبتورا عن مجمل المعالجة التي نتطلع إليها لأنظمة صندوق العقاري, وهذه حقيقة مهمة. فكلنا يعلم أن أنظمة صندوق التنمية العقاري أسهمت بشكل فاعل في ترسيخ ثقافة التطوير الفردي للمساكن, وهي الثقافة التي أنتجت ما نراه من بنية عمرانية إسكانية متهالكة, تفتقر إلى أسس الجودة التي تتطلبها معايير أنظمة التمويل والرهن العقاري, التي تنظر إلى الوحدة السكنية كأساس لضمان التمويل, ويصبح بذلك عنصر الجودة عنصرا أساسيا لتحقيق الأمان لجهات التمويل بالنظر إلى طول مدة التمويل في هياكل التمويل العقاري. كما أن أنظمة الصندوق ما زالت تضع عنصر الأرض ضمن عناصر عملية البناء في ظل الاستمرار في تبني آلية التطوير الفردي, الأمر الذي يعني عدم إلغاء حاجة الأفراد إلى شراء الأراضي بشكل مباشر, ليس للتقدم إلى الصندوق بطلب القرض, لكن لتنفيذ عملية البناء حال الحصول على القرض. وهو الواقع الذي نعيشه في الوقت الراهن, إذ إننا نعلم جيدا أن لا أحد من الحاصلين على قرض الصندوق يملك بالفعل ذات الأرض التي تقدم بها للحصول على القرض منذ سنين طويلة خلت, ويجب عليه حال حلول دوره في الحصول على القرض البحث عن أرض لشرائها ليقوم ببناء مسكنه عليها. هذا الواقع يتطلب مراجعة شاملة وفاعلة لأنظمة الصندوق, للتأسيس لتغيير ثقافة التطوير الفردي إلى التطوير والبناء الجماعي من قبل مطورين متخصصين في بناء الوحدات السكنية وفق مفهوم صناعي يتبنى أسس المعيرة والنمذجة, وذلك من خلال توفير وتوجيه التمويل لهؤلاء المطورين وفق شروط وإجراءات تلزمهم بإنتاج وحدات سكنية تحقق معايير الجودة التي يحددها الصندوق, ليقوم بعد ذلك بتقديم هذه الوحدات السكنية للمواطنين جاهزة للسكن المباشر, على غرار تلك التجربة الناجحة للصندوق في توزيع الوحدات السكنية في مشاريع الإسكان العاجل. وهو ما يمكن أن يحقق الكثير من الوفر في الوقت والجهد والمال مقارنة بآليات التطوير الفردي القائمة.
الجانب السلبي الآخر في أنظمة الصندوق هو توحيد استحقاق الحصول على القرض لكل المواطنين بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو قدراتهم المالية. إذ إنه لا يعقل أن يعامل من يملك الملايين ومن لا يملك شروى نقير على قدم المساواة في استحقاق الحصول على القرض. والواجب ــ في رأيي المتواضع, أن يتم تحديد الأولوية في الحصول على القرض استنادا إلى تقص حقيقي على أرض الواقع للحالة الاجتماعية والمالية لطالبي القروض, ليتم منح الأولوية للأكثر استحقاقا وحاجة للحصول على المسكن، خاصة ممن لا يملكون مساكنهم الأولية, في مقابل من يملكون مساكنهم أو ربما يملك بعضهم أكثر من مسكن. المشكلة التي سيواجهها صندوق التنمية العقاري في الفترة القادمة نتيجة هذا القرار هي انتظام راغبي الحصول على القروض العقارية في صفوف طويلة لوضع أسمائهم في قوائم الانتظار, الأمر الذي سيؤدي إلى إطالة فترة الانتظار فوق المدة الحالية التي تقدر بنحو 30 عاما. وما كنت أتطلع إليه هو أن يأخذ القرار الصادر هذا الجانب في الاعتبار, ليكون له الأثر الفاعل المأمول في معالجة جوانب المشكلة.
خلاصة القول, قضية الإسكان تتطلب معالجة استراتيجية شمولية منظمة تطول كل جوانب المشكلة, وليس حلولا مبتورة متناثرة تعالج بعض الآثار السلبية لواقع المشكلة. تذكرت هنا مقولة لأحد الباحثين الذي قال فيما قال, إن الثقافة العربية بالعموم تلجأ إلى معالجة آثار المشكلة عوضا عن معالجة أساس المشكلة. ومعالجة قضية الإسكان في المملكة تتطلب اهتماما بحجم عظم المشكلة, وتتطلب توجيه الجهود لمعالجة جذور المشكلة معالجة شاملة, منبها إلى أن التأخر في هذا الأمر لن يؤدي إلا إلى تفاقم المشكلة. وأخشى ما أخشاه أن يأتي الحل حينها .. في الوقت الضائع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي