الإسكان قضية تتطلب الشجاعة أولا
كنت قد اعتدت كتابة مقالي الأسبوعي في بحبوحة يوم الخميس من كل أسبوع، بينما ينشغل أفراد أسرتي بمناقشة السؤال الأصعب، ماذا نفعل في عطلة نهاية الأسبوع، في ظل الخيارات القليلة المتاحة في مدينتي الرياض. وعندما رأيت إعلان قناة ''العربية'' عن موضوع حلقة الأسبوع من برنامج واجه الصحافة الذي يعرض مساء يوم الجمعة قررت أن أرجئ كتابة المقال إلى ما بعد مشاهدة هذه الحلقة المهمة، لأكتب مقالي استنادا إلى ما أسمعه من اثنين من أكثر المسؤولين علاقة بقضية الإسكان في المملكة، وهما محافظ الهيئة العامة للإسكان ومدير عام صندوق التنمية العقاري، وهما الجهتان اللتان تناولتهما بالحديث في العديد من مقالاتي السابقة. محتوى هذه الحلقة كان من الأهمية بمكان يدفعني إلى تقديم الشكر لمعد البرنامج ومقدمه الإعلامي المحنك داود الشريان، ويدفعني كذلك إلى أن أرفع راية الشجاعة في الطرح عند الحديث عن هذه القضية الحيوية. وقبل أن أتحدث عن مواطن الشجاعة التي أجد أنه من الضروري أن يتحدث بها المسؤولون في الدولة عنها، أجد أنه لزام عليّ أن أعترف بشجاعة وأقر بالخطأ الذي وقعت فيه عندما كتبت مقالي الذي نشر في الأسبوع الماضي بعنوان ''فك ارتباط الأرض بالقرض.. قرار في الوقت الضائع''.
موطن الخطأ الذي أعترف بشجاعة أنني وقعت فيه أنني لم ألمس الأثر الإيجابي لهذا القرار على تيسير تملك المساكن في المملكة إلا بعد أن استمعت إلى الشرح الذي أفادنا به مدير عام صندوق التنمية العقاري، الذي أوضح فيه أن هذا القرار سيتيح المجال للمتقدمين للصندوق لشراء وحدات سكنية قائمة بتمويل من الصندوق في حدود قيمة القرض المحددة بمبلغ 300 ألف ريال. والحقيقة أن هذا القرار بهذه الصورة سيكون أحد المفاتيح المهمة لحل قضية الإسكان في المملكة وفق هذا التصور، إذ إنه سيؤسس لخلق طلب حقيقي داعم لنشوء صناعة تطوير وبناء الوحدات السكنية وتوفيرها لراغبي السكن من المنتظمين في طابور طالبي تمويل الصندوق، الأمر الذي سيؤدي إلى تحجيم ظاهرة التطوير والبناء الفردي للمساكن من جهة، وتقليل الطلب الفردي على عنصر الأرض في دورة بناء المساكن، ما سيؤدي على المدى الأبعد إلى إخراج الأرض من دائرة المتاجرة، ويؤدي بالتالي إلى انخفاض أسعارها التي طالت عنان السماء في وقتنا الحاضر. وإذ أتقدم لمدير عام الصندوق بالشكر والتقدير على هذا الإيضاح المهم، فإنني آمل منه ومن محافظ الهيئة العامة للإسكان وبقية مسؤولي الدولة ذوي العلاقة بهذه القضية أن يتسع صدرهم لمطالبتي لهم بتبني مبدأ الشجاعة في التعاطي مع العديد من المواطن الأخرى التي تتطلب المعالجة الجادة للوصول إلى حل وتفكيك عقدة هذه القضية الشائكة، منطلقا في عرضي لهذه المواطن من مجمل الحديث الذي دار في تلك الحلقة من البرنامج.
الموطن الأول هو دور الهيئة العامة للإسكان، فحديث محافظ الهيئة لم يشف غليلي وغليل المتابعين، وما زلت أرى أن الهيئة تعمل بعيدا عن مهمتها الحقيقية، وما زالت تدور حول الحمى دون أن تقتحمه. معالي المحافظ ذكر أن الهيئة تقوم على بناء نحو 66 ألف وحدة سكنية ضمن الخطة الخمسية التاسعة، منها نحو عشرة آلاف وحدة سكنية تم توقيع عقود بنائها بالفعل. وفي الوقت ذاته، ذكر معالي المحافظ أن الهيئة تقوم حاليا على الاستحواذ على أكثر من 200 مليون مترمربع من الأراضي التي ستكفي لبناء ما يزيد على ربع مليون وحدة سكنية في تقديره. وعلى الرغم من أنني ما زلت مقتنعا بأن الهيئة يجب ألا تقوم بالانخراط والغوص في عمليات البناء المباشر، الأمر الذي أرى أنه يمثل هدرا كبيرا لموارد الهيئة المالية والبشرية، خاصة في ظل التزامها بالعمل وفق نظام المشتريات الحكومية الذي نشهد بسببه اتساع ظاهرة تعثر المشاريع الحكومية، إلا أن هذه الأرقام تدفعني أيضا إلى التساؤل عن جدوى تمليك هذه الأراضي الشاسعة للهيئة عوضا عن توفيرها للمطورين من القطاع الخاص ليقوموا ببناء وحدات سكنية عليها استجابة للطلب الذي ستخلقه الآلية المحدثة لعمل صندوق التنمية العقاري. فالهيئة التي ستتملك مساحة من الأراضي التي تكفي لبناء ما يربو على ربع مليون وحدة سكنية ستقوم ببناء نحو خمس هذا الرقم على مدى سنوات الخطة الخمس، هذا بافتراض نجاح الهيئة في تحقيق هذا المسعى. إذن فلماذا تحتجز الهيئة مساحة تكفي لبناء نحو 200 ألف وحدة سكنية أخرى دون أن تضخها في دورة بناء الوحدات السكنية. أليس من الأجدر تأسيس آليات للتعاون مع القطاع الخاص تسهم من خلالها الهيئة بهذه الأراضي ليقوم القطاع الخاص ببناء وحدات سكنية عليها. ثم ماذا تمثل هذه المساحة وهذه الأرقام من حجم الطلب الحقيقي على المساكن؟ إن أرقام الخطة الخمسية التاسعة تتحدث عن مليون وحدة سكنية خلال عمر الخطة، أي 200 ألف وحدة سكنية في السنة. وبذلك فإن تلك المساحة من الأراضي تكفي بالكاد لسد احتياجات سنة واحدة فقط من سني الخطة. فهل هناك خطة لتوفير المزيد من الأراضي؟ وأين دور وزارة الشؤون البلدية والقروية من هذا الموضوع؟
الموطن الآخر هو حول ما ذكره معالي محافظ الهيئة العامة للإسكان عندما أشار إلى أن تكلفة بناء الوحدة السكنية الواحدة في المشروعات التي تقوم عليها الهيئة تبلغ نحو 400 ألف ريال فقط. وهذا الرقم يبدو منخفضا مقارنة بأسعار الوحدات السكنية المشابهة المعروضة حاليا في سوق الإسكان، لكنه في الحقيقة رقم مرتفع إذا تذكرنا أن هذه القيمة لا تشمل أي تكلفة لعنصر الأرض الذي تحصل عليه الهيئة مجانا، في مقابل ارتفاع نسبة قيمة الأرض من قيمة المسكن في المساكن التي يعرضها القطاع الخاص الذي يقوم بشراء الأراضي بشكل مباشر. هذا الواقع يعيد إلى الأذهان المطالبات المتعددة التي يطرحها كتاب الرأي حول ضرورة قيام الدولة بتوفير الأراضي للقطاع الخاص مجانا أو بأسعار رمزية، للتقليل من تأثير قيمة عنصر الأرض في ارتفاع أسعار الوحدات السكنية، وبالتالي تحقيق التيسير المأمول في تملك المساكن. وأعتقد جازما أن الوقت قد حان لتبني هذا التوجه بشكل فاعل، خاصة أن الدولة بادرت بتطبيق هذا التوجه في حالة الهيئة العامة للإسكان، التي لا تختلف بهذا الدور الذي اتخذته عن بقية المطورين العقاريين في القطاع الخاص.
الموطن الثالث هو حديث مدير عام صندوق التنمية العقاري عن مدة انتظار القرض، حيث ذكر أن مدة الانتظار تبلغ حاليا نحو عشر سنوات، وعبَّر عن توقعه أن تنخفض هذه المدة إلى أقل من ذلك بكثير عند بدء تطبيق الآليات المحدثة للصندوق. والحقيقة أن هذا الحديث ابتعد عن الواقعية والشجاعة، إذ إننا جميعا نعلم أن مدة انتظار القرض تبلغ حاليا نحو 20 سنة، أي ضعف الرقم الذي ذكره مدير عام الصندوق. كما أن هذه المدة ـــ في رأيي ـــ لن تقصر، بل ستطول في ظل محدودية موارد الصندوق، خاصة أنه ذكر أيضا أن قائمة الانتظار ستزيد من نحو 550 ألف طلب حاليا إلى الملايين من الطلبات. وما ذكره مدير عام الصندوق عن قيام الصندوق بدراسة وسائل التعاون مع الجهات التمويلية الخاصة لتوسيع محافظ التمويل عبر قيام الصندوق بدور الضامن سيصطدم بواقع محدودية موارد تلك الجهات أيضا في ظل تأخر صدور أنظمة الرهن والتمويل العقاري، علاوة على ارتفاع تكلفة التمويل لدى جهات التمويل الخاصة نتيجة ارتفاع حجم المخاطر الناجمة عن قصور وسائل الإدارة الائتمانية لطالبي التمويل.
خلاصة القول، القضية تتطلب الكثير من الشجاعة والشفافية في النقاش والتعاطي مع المواطن التي ذكرتها، وكثير من المواطن الأخرى التي لا يتسع المقام لذكرها، وربما سأتناولها في مقالات لاحقة. والقضية تتطلب أيضا رفع مستوى التنسيق بين مختلف أجهزة الدولة ذات العلاقة، بل إن القضية تتطلب ضم اختصاصات تلك الجهات في جهة واحدة تتولى مهام إدارتها بالاحترافية اللازمة، وهو ما يعيدني إلى تأكيد الحاجة إلى قيام الهيئة العامة للإسكان بتبني هذا الدور عوضا عن الانشغال ببناء وحدات سكنية لن تسد رمق العطاشى من الباحثين عن سكن يؤويهم في هذا الوطن.