استثمار الصناعة وصناعة الاستثمار
قضيت وأسرتي إجازة عيد الأضحى المبارك في مدينة الجبيل الصناعية بدعوة من أحد الأقارب الأعزاء. وبالرغم من أن هذه المدينة هي مدينة صناعية في الدرجة الأولى، إلا أنها تتمتع كذلك بإمكانات سياحية كبيرة، جعلت من هذه التجربة تجربة جميلة، أشكر للداعي الكريم أن أتاح لنا الفرصة للتمتع بها، خاصة وأنها أضافت عددا من الموضوعات التي سأتناولها بالكتابة في هذا المقام. وسأبدأ هنا بالحديث عن قضية الصناعة في المملكة، انطلاقا من الانطباع الذي تتركه هذه المدينة لدى زوارها حول ضخامة النشاط الصناعي فيها، وهي المدينة التي تعد بلا منازع المركز الصناعي الأكبر في المملكة وربما في المنطقة برمتها.
قضية الصناعة في المملكة هي قضية حيوية وأساسية في مسيرة التنمية، وليس أدل على ذلك من رؤية خادم الحرمين الشريفين التي أعلن فيها أن ''الصناعة هي خيارنا الاستراتيجي لتنويع مصادر الدخل''. والحقيقة، أن المملكة تتمتع بحمد الله بالكثير من المقومات والإمكانات التي تدعم هذه الرؤية، وتجعل تحقيقها أمرا ممكنا لو توافرت الإرادة الحقيقية والآليات المناسبة والمناخ الملائم. والآليات المناسبة التي سأتحدث عنها في هذا المقال تشمل طبيعة التركيبة المؤسسية التي تختص بإدارة هذا القطاع، والمتطلبات التي يلزم توفيرها لتحقيق النجاح المأمول لرؤية قائد المسيرة.
تشمل الجهات التي تتولى مسؤولية إدارة اختصاصات قطاع الصناعة في المملكة ثلاث جهات رئيسية، وهي وزارة التجارة والصناعة، وصندوق التنمية الصناعي، وهيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية. ووزارة التجارة والصناعة، ممثلة في وكالة الوزارة للصناعة، تقوم بمهمة الرقابة والتشريع والتنظيم للنشاطات الصناعية في المملكة، علاوة على إدارة تنفيذ استراتيجية الصناعة الوطنية التي أقرها مجلس الوزراء الموقر في أوائل عام 2009، وهي الاستراتيجية التي لا زالت حبيسة الأدراج، ولم نسمع منذ اعتمادها عن أية خطط أو إجراءات لبدء تطبيقها ووضعها موضع التنفيذ. وصندوق التنمية الصناعي يختص بالقيام بمهمة توفير التمويل لمشروعات الاستثمار الصناعي، وقد قام بالفعل بأداء دور فاعل في هذا المجال، بالرغم من انحصار هذا الدور في تمويل المشروعات الصناعية الكبرى، وانحسار دوره في تمويل المشروعات الصناعية الصغرى والتحويلية بشكل عام. أما الجهة الثالثة، وهي هيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية، فتقوم بمهمة توفير وإدارة الأراضي المخصصة للاستثمارات الصناعية في المدن الصناعية التي تقوم على تطويرها في مختلف أنحاء المملكة، وهي تقوم بهذا الدور باقتدار وحرفية عالية، بالرغم من قصور إمكاناتها البشرية والتمويلية، وبالرغم من انحسار الطلب على الأراضي الصناعية في العديد من تلك المدن الصناعية الواقعة في مدن الدرجة الثانية والثالثة. وبخلاف هذه الجهات الثلاث، تعمل كذلك بعض الجهات الأخرى على أداء أدوار أخرى متفرقة ذات علاقة بالقطاع الصناعي، ومنها الهيئة العامة للاستثمار، والهيئة الملكية للجبيل وينبع، وهيئة المدن الاقتصادية، ووزارة العمل، علاوة على البنوك التجارية والمؤسسات التمويلية المختلفة. المشكلة هنا هي في تشتت الجهود وتناثر المسؤوليات بين كل تلك الهيئات والمؤسسات الحكومية والخاصة، وغياب الجهة المركزية التي يجب أن تقوم بدور مركزي في إدارة شؤون هذا القطاع، وتعمل على مد الجسور بين هذه الجهات المختلفة، وتنسيق جهودها في إطار استراتيجية الصناعة الوطنية التي يجب أن تكون المسار الأساسي لتوجيه تنمية هذا القطاع.
تعاني هيئة المدن الصناعية الأمرين في جذب الاستثمارات الصناعية لعديد من المدن الصناعية التي طورتها وجهزتها بالبنية التحتية في مدن الدرجتين الثانية والثالثة، مثل جيزان وتبوك وحائل وغيرها من المدن. فيما تواجه الهيئة كذلك إقبالا كبيرا على المدن الصناعية التي طورتها في المدن الرئيسية مثل الرياض وجدة والدمام. والحقيقة أن هذا الغياب في توازن الطلب لا يرجع فقط إلى طبيعة المزايا النسبية واللوجستية للمدن الرئيسية بالمقارنة مع المدن الأخرى، بل يرجع في وجهة نظري إلى غياب الآليات المناسبة لخلق فرص الاستثمار الصناعي وتوطينها في تلك المدن. والحقيقة أن هذا الدور لا يقع حاليا ضمن اختصاصات هيئة المدن الصناعية، كما أنه لا يقع ضمن اختصاصات أي من الجهات المسؤولة عن إدارة قطاع الصناعة في المملكة. إن تطوير قطاع الصناعة يتطلب بالضرورة وضع الآليات المناسبة لخلق وصناعة فرص الاستثمار في القطاع الصناعي، ومن ثم استقطاب المستثمرين لتبنيها والاستثمار فيها. وهو ما يؤكد الحاجة إلى إيجاد هذا الجهاز المركزي الذي أشرت إليه، ليتولى ضمن مهامه حصر وتحديد إمكانات ومجالات وفرص الاستثمار الصناعي في المملكة، والعمل على هيكلتها وتجهيزها وتهيئتها للاستثمار، وهو ما يمكن أن يحقق مفهوم صناعة الاستثمار لاستثمار الصناعة.
أذكر أنني حضرت قبل أشهر قليلة ندوة عقدتها الغرفة التجارية الصناعية في الرياض للتسويق لعدد من الفرص الصناعية التي أعلنتها مؤسسة الصناعات الحربية. هذه المؤسسة أعلنت حاجتها إلى توطين عدد من الصناعات العسكرية؛ للتعويض عن قيامها باستيراد الكثير من القطع والمعدات والآليات العسكرية البسيطة التي يمكن تصنيعها محليا بشكل منافس. وبالرغم من أهمية هذه المبادرة، إلا أنها افتقرت إلى أية آليات واضحة لتمكين صغار المستثمرين من تبني هذه الفرص وتطويرها ووضعها موضع التنفيذ. وعلى غرار هذه المبادرة، فإن منظومة الاستهلاك في المملكة تزخر بالعديد من الفرص التي يمكن من خلالها تطوير صناعات تحويلية متخصصة، يمكن أن تعوض عن الحاجة المستمرة إلى الاستيراد من خارج المملكة، وتخلق العديد من فرص العمل للشباب السعودي بجنسيه، عوضا عن توجيه السعودة للوظائف الإدارية والخدمية. تخيلوا معي كم من المنتجات التي نستخدمها يوميا في مختلف شؤون حياتنا يمكن أن يتم تصنيعه محليا، ولست أتحدث هنا عن صناعات تتطلب تقنيات متقدمة لا نملكها، بل صناعات بسيطة تبدأ من أدوات المطبخ إلى قطع غيار السيارات والأجهزة والنسيج وغير ذلك الكثير من المنتجات الاستهلاكية التي نستورد معظمها من خارج الوطن، مع كل ما يحمله هذا الواقع من مخاطر على الأمن الصناعي والحياتي بشكل عام.
خلاصة القول، إن النهوض بقطاع الصناعة يتطلب تنسيق الجهود المشتتة وجمعها في جهاز مركزي واحد يتولى مهمة إدارة هذا القطاع بكل مسؤولياته. وقد يكون الوقت قد حان بالفعل، إن لم يكن متأخرا، لفصل قطاع الصناعة في وزارة مستقلة، عوضا عن إناطة هذه المسؤولية بوزارة التجارة التي ينوء كاهلها بحمل ثقيل في إدارة شؤون التجارة في المملكة، وأصبحت الصناعة فيها شأنا ثانويا لم ينل حتى الآن حظه من الاهتمام الذي يوازي اهتمام القيادة الذي عبرت عنه رؤية القائد.