هيئات الصناعة في الميزان
تحدثت في مقال الأسبوع الماضي عن قضية الصناعة في المملكة، انطلاقا من وحي رحلتي إلى مدينة الجبيل الصناعية في إجازة عيد الأضحى المبارك. في تلك الرحلة لمست الأثر الهائل للدور المميز الذي قامت به الهيئة الملكية للجبيل وينبع في تنمية تلك المدينة. ومع أني لم أحظ بفرصة لزيارة مدينة ينبع الصناعية بعد، إلا أن الانطباع الذي تركته زيارة مدينة الجبيل الصناعية في نفسي كان كافيا لفهم حجم وشمولية الدور الذي لعبته تلك الهيئة في تنمية هاتين المدينتين الرائدتين، ومحفزا في الوقت ذاته للتأسيس لمقارنة موضوعية بين الهيئات والأجهزة المسؤولة عن تنمية المدن الصناعية في المملكة، التي تشمل إلى جانب الهيئة الملكية للجبيل وينبع، هيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية، وهيئة المدن الاقتصادية، ليأتي هذا المقال محاولة لوضع تلك الأجهزة في ميزان المقارنة بين القدرات والمنجزات.
تأسست الهيئة الملكية للجبيل وينبع عام 1975، أي أنها بلغت من العمر نحو 35 عاما، قامت خلالها بتطوير وتنمية مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين لتكونا من بين أهم التجارب لتنمية المدن الصناعية على مستوى العالم. فيما تأسست هيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية في عام 2001، أي قبل نحو تسع سنوات، قامت خلالها بتطوير عدد من المدن الصناعية في مختلف أنحاء المملكة، وحققت خلالها نجاحات متفاوتة وتعثرات ملموسة في تلك المدن. وكذلك ولدت هيئة المدن الاقتصادية قبل نحو السنة من رحم الهيئة العامة للاستثمار، لتشكل مظلة لمشروعات تنمية المدن الاقتصادية في المملكة، والتي يشكل القطاع الصناعي فيها عنصرا أساسيا بدرجات متفاوتة من عناصر تطوير تلك المدن التي يبلغ عددها حتى الآن أربع مدن، ويدور حولها الكثير من الجدول حول فرص نجاح تلك الجهود في ظل الكيفية التي تدار بها تنمية تلك المدن، وغلبة العنصر العقاري في تلك المعادلة. وفي الوقت الذي تتشابه فيه هيئتا الجبيل وينبع والمدن الاقتصادية في التطوير والتنمية المتكاملين لمدن تضم كل عناصر التنمية الحضرية، فإن هيئة المدن الصناعية تختص بتطوير مناطق صناعية متخصصة ضمن النطاقات العمرانية لمدن قائمة في مختلف أنحاء المملكة، في شكل من أشكال التطوير العقاري المتخصص. كما أن هيئتا الجبيل وينبع والمدن الصناعية تتشابهان في التخصص في مجال تنمية المناطق الصناعية، فيما تختص هيئة المدن الاقتصادية بتنمية مدن ذات مكونات اقتصادية متنوعة يمثل قطاع الصناعة أحد مكوناتها المتعددة وليس محورها الأوحد.
وعلى الرغم من تباين اختصاصات هذه الأجهزة والهيئات، برز في ذهني سؤال محير. لماذا هذا التعدد والازدواجية في التعاطي مع القطاع ذاته؟. إن كانت الهيئة الملكية للجبيل وينبع قد حققت النجاح في تنمية هاتين المدينتين على مدى عمرها الذي بلغ 35 عاما، فلماذا لم تنط بها مسؤولية تنمية المدن الصناعية والاقتصادية المتخصصة؟، ولماذا بادرت الدولة لتأسيس أجهزة أخرى تقوم بالدور ذاته، متخطية حقيقة النجاح الذي حققته تلك الهيئة على مدى تلك السنوات، ومخزون الخبرة الذي تمتلكه في هذا المجال. الحقيقة أن هذا الواقع يمثل تكرارا لظاهرة الهدر الإداري التي نلحظها في الهيكل الوظيفي لمؤسسات الدولة، خاصة إذا علمنا أن جهاز الهيئة الملكية للجبيل وينبع يضم أكثر من سبعة آلاف موظف، لتكون بذلك أحد أكثر أجهزة الدولة ترهلا وتضخما، في الوقت الذي يضم جهاز هيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية نحو 150 موظفا فقط، ولا أظن أن حجم جهاز هيئة المدن الاقتصادية يتخطى هذا الرقم استنادا إلى كونها هيئة ناشئة حديثة التأسيس. كما أن الهيئة الملكية للجبيل وينبع كانت وما زالت تحصل على مواردها المالية من ميزانية الدولة، وهي في الحقيقة مخصصات ضخمة تمثل عبئا كبيرا على خزانة الدولة للصرف على هذا الجهاز الضخم، في الوقت الذي تعمل هيئة المدن الصناعية اعتمادا على مواردها الذاتية، دون أن يكون لها أي رصيد مخصص في ميزانية الدولة.
قضية الصناعة في المملكة تقع على رأس اهتمامات الدولة، انطلاقا كما ذكرت في مقالي السابق من رؤية قائد المسيرة التي أعلن فيها أن الصناعة هي خيارنا الاستراتيجي لتنويع مصادر الدخل. والحقيقة أن تحقيق هذه الرؤية يتطلب مراجعة شاملة للواقع الذي تعيشه الصناعة في بلادنا، بما في ذلك مرجعية إدارة هذا القطاع. وكما أبرزت في مقالي السابق أهمية الحاجة إلى تأسيس مرجعية مركزية لإدارة هذا القطاع، فإن الحاجة تبدو أساسية وملحة أيضا لإعادة تنظيم الأجهزة المختصة بإدارة وتنمية المدن الصناعية في المملكة، وجمعها في جهاز مركزي واحد، لتحقيق الترشيد المأمول في الموارد المادية والبشرية، والتوظيف الأمثل للخبرات المختزنة على مدى السنوات الطويلة من عمر تجربة تنمية المدن الصناعية في المملكة، علاوة على تحقيق التكامل والتناغم بين تنمية المدن الصناعية والاقتصادية، عبر خطة استراتيجية موحدة وشاملة، عوضا عن التضارب والتنافس المخل الذي يمكن أن يكون نتيجة مباشرة لهذا التشتت في إدارة تنمية المدن الصناعية والاقتصادية. هذه المكاسب التي أتحدث عنها رأتها الدولة بكل تأكيد، وهي تقوم بتكليف الهيئة الملكية للجبيل وينبع بتولي مهمة إدارة تنمية مدينة رأس الزور لتكون مركزا للصناعات التعدينية. وإذ أثق كل الثقة أن هذا القرار كان في محله قياسا إلى نجاح الهيئة الملكية السابق في تنمية مدينتي الجبيل وينبع، إلا أن هذا القرار يطرح تساؤلا كبيرا حول قناعة متخذه بقدرة هيئة المدن الصناعية وهيئة المدن الاقتصادية على القيام بمثل هذا الدور، وجدوى استمرار هذا التعدد غير المبرر لأجهزة وهيئات تقوم بأدوار متماثلة في البلد ذاته.
الحديث عن نجاح الهيئة الملكية للجبيل وينبع لا ينصب فقط على جانب التنمية الصناعية، بل ينجر أيضا إلى جانب التنمية العمرانية، وتنعقد بذلك المقارنة بين تلك الهيئة ووزارة الشؤون البلدية والقروية، وهي الجهة المسؤولة عن إدارة التنمية العمرانية لمدن وقرى المملكة. ومع أن هذه المقارنة ليست في صلب موضوع هذا المقال، إلا أن حالة المقارنة التي عشتها ورأيتها بناظري بين الجبيل الصناعية والجبيل القديمة تبرز حتمية هذه المقارنة بين جهازين يقومان بالدور ذاته في المنطقة ذاتها، ويخرج كلاهما بنتائج الفارق بينها كبير وظاهر للعيان بشكل واضح وفاضح. وتبرز المقارنة بشكل أوضح عندما تكون المقارنة بين الجبيل وينبع الصناعيتين وبقية مدن المملكة التي تقع تحت إدارة الأجهزة البلدية التقليدية، والتي تبرز تفوق تلكما المدينتين على بقية المدن في جودة التنمية العمرانية، حتى على مدينة الرياض العاصمة التي تحمل جل الأهمية وتحصل على معظم الاستثمار. ولست أدعو هنا بالطبع إلى دمج هذين الجهازين، ولا إلى تكليف الهيئة الملكية بتولي مهمة التنمية العمرانية لمدن المملكة، ولكنني أدعو على الأقل إلى الوقوف عند هذه الظاهرة، ودراسة المسببات التي أدت إليها، وتعلم الدروس التي يمكن تطبيقها في مجال التنمية العمرانية لمدن المملكة، لرفع كفاءة وجودة هذه التنمية، وتحقيق تطلعات القيادة في توفير العيش الرغيد لأبناء هذا الوطن قاطبة.