هل يكون الفشل مصير قمة كانكون مثلما فشلت قبلها قمة كوبنهاجن؟ (2 من 2)

تتواصل أعمال قمة الأمم المتحدة الـ 16 حول المناخ في مدينة كانكون في المكسيك وتتواصل معها محاولات الدول الصناعية لصياغة اتفاقية إطارية عالمية لمعالجة ظاهرة الاحتباس الحراري.
وكما بدأنا الجزء الأول بطرح عديد من الأسئلة التي تعزز القناعة بوجود أجندات للدول الصناعية الغربية في مباحثات التغير المناخي، نكمل في هذا الجزء بطرح المزيد منها والتي ترجح كفة الشكوك في الدوافع، لعل أبرزها: لماذا الآن؟ ولماذا تصر الدول الصناعية الغربية على إعطاء البيئة أولوية في هذا التوقيت بالذات؟ هل هي صحوة ضمير؟ أم أنها فاتورة الكوارث الطبيعية التي زادت في السنوات الأخيرة؟ أم أنها أسعار النفط التي وصلت قبل الأزمة إلى مستويات تاريخية والمخاوف من عودتها إلى مستويات مقاربة مع انحسار الأزمة الاقتصادية وتعافي الاقتصاد العالمي؟
وبعيدا عن الاتهامات والاتهامات المضادة بين الدول الصناعية والنامية والصخب الإعلامي الذي أثارته قمة كوبنهاجن، والذي قد تحظى قمة كانكون بنصيب وافر منه، نحاول في هذه المقالة تقديم رأي مبني على قراءة هادئة وموضوعية لمساعي الدول الصناعية لتحميل النفط مسؤولية ظاهرة الاحتباس الحراري.

النفط .. هل يصبح كبش الفداء
في مبادرة التغير المناخي؟
ليس سرا أن الهدف الأساسي وراء المحاولات التي تقودها الدول الصناعية في مباحثات التغير المناخي يكمن في السعي لتخفيض الطلب على النفط. وهذا ما يجسده كون أحد المحاور الأساسية لمبادرة تغير المناخ ''ضريبة الكربون'' التي قررت بعض الدول الصناعية المستهلكة للنفط فرضها على الوقود الأحفوري لتقليل الاعتماد عليه لصالح مصادر الطاقة المتجددة. وما يؤكد عدم الحيادية في مسببات اللجوء إلى مثل هذه الضريبة هو قيام الدول الغربية بتقديم دعم للفحم رغم كونه يسبب تلوثا أكثر مما يسببه النفط. كما قامت تلك الدول بإعفاء انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون الناتجة من الصناعة وتوليد الكهرباء بصورة كاملة من تلك الضريبة، مع أنها من أسوأ مصادر التلوث لجهة حجم الانبعاثات الكربونية. ونظرا لكون مستوى الانبعاثات الكربونية خلال مختلف مراحل السلسلة الإنتاجية في صناعة النفط يعد عاليا نسبيا، فإن إقرار الدول الصناعية لضريبة الكربون سيكون له تأثير كبير على شركات النفط. ووفقا لتقديرات دراسة لشركة PFC الاستشارية العالمية فإن فرض ضريبة كربون في حدود 30 دولارا على كل طن من انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون سيكلف شركات النفط العالمية مبالغ طائلة تتجاوز الـ 20 مليار دولار!
وبموازاة ذلك تتجه الدول الصناعية نحو تقديم حوافز إضافية لمصادر الطاقة المتجددة بما قد يؤدي إلى خفض الطلب فيها على النفط، فعلى سبيل المثال تبنت الدول الأوروبية حزمة إجراءات لخفض نسبة 20 في المائة من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2020 مقارنة بمستويات عام 1990 سينتج عنها تقليص حجم الاستهلاك الأوروبي من النفط من نحو 15.5 مليون برميل يوميا في الوقت الحاضر إلى نحو 13.3 مليون برميل يوميا بحلول عام 2020، أي بنسبة انخفاض تقدر بنحو 15 في المائة وحتى إذا لم تنجح الدول الأوروبية في تحقيق ذلك الهدف، فإن تنفيذ حزمة الإجراءات المقترحة التي قد تمتد إلى دول ومناطق أخرى من العالم ما سيؤثر سلبا في الطلب العالمي على النفط.
يضاف إلى ذلك الضغوط المتزايدة التي قد يواجهها قطاع الطاقة ليس فقط من المشرعين والمنظمين Regulators بل أيضا من المؤسسات التمويلية التي سيكون من بين شروطها لتمويل مشاريع الشركات النفطية توفير شفافية أكبر فيما يخص الانبعاثات الكربونية للمشاريع الممولة والالتزام بالمعايير والضوابط البيئية الجديدة لمكافحة ظاهرة التسخين الحراري بما قد يرفع التكاليف التشغيلية على الشركات النفطية، وبالتالي يؤثر سلبا في حقوق المساهمين فيها خصوصا في ضوء تحول تسعيرة الانبعاثات الكربونية إلى وسيلة لمكافحة التسخين الحراري. ولا يمكن إهمال الضغوط الأخرى من المنظمات البيئية ومؤسسات المجتمع المدني في هذا السياق. ويبقى السؤال متى وكيف ستواجه الدول النفطية وشركات النفط العالمية تلك الضغوط بما لا يعرضها لمساءلة قانونية أو مطالبات بتعويضات مالية بسبب تحميلها مسؤولية الآثار المترتبة على التسخين الحراري.
وتأسيسا على ذلك فإن محادثات تغير المناخ تمثل تهديدا كبيرا لمصالح الدول المنتجة للنفط وفي مقدمتها المملكة. فهذه الضرائب والضغوط تضيف عبئا إضافيا على النفط، وتؤدي بالتالي إلى تقليص الطلب عليه أو على الأرجح زيادة في عوامل عدم اليقين التي تحيط بالطلب المستقبلي على النفط.
في هذه الأجواء أبدت الدول المنتجة للنفط وفي مقدمتها المملكة استعدادها لتحمل مسؤولياتها ومشاركة المجتمع الدولي جهوده في التصدي لتغير المناخ برغم إسهامها الضئيل في تفاقم هذه الظاهرة متبنية موقفا موضوعيا يقوم على أن أي اتفاق عالمي يجب أن يتسم بالعدالة والشمولية والتوازن بما يسهم في تحقيق نمو إيجابي للاقتصاد العالمي ولا يلحق الضرر باقتصاداتها. وقامت الكثير من الدول النفطية فعلا ويشكل طوعي، باتخاذ العديد من التدابير والإجراءات للتخفيف من تغير المناخ.
وللموضوعية كان الصوت الأبرز في جولات مفاوضات المناخ لممثل المملكة الدكتور محمد الصبان مستشار وزير البترول والثروة المعدنية وسط أصوات خجولة من ممثلي الدول العربية النفطية في هذه المفاوضات.

قمة كانكون.. هل تحمل النفط
مسؤولية الاختلالات
قمة كانكون سيحاول المشاركون إيجاد إجماع عالمي حول التعامل مع التغيرات المناخية التي أضحت هاجسا ملحا في الدول الصناعية الإسهام الأكبر ذاته في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ومن المؤكد أن جهود تلك الدول الصناعية ستنصب على تضخيم تأثيرات النفط السلبية ودوره الرئيس في ظاهرة الاحتباس الحراري وارتفاع درجات الحرارة بما يبرر الدعوات المنادية بالاستغناء التدريجي عنه كوسيلة لمواجهة التغير المناخي. وهذه المواقف بتقديري لا تمثل بديلا عمليا لتخفيض الانبعاثات الكربونية، خاصة مع تطوير تقنيات الوقود النظيف، وأنظمة كفاءة استخدام الطاقة، وتقنية احتجاز وتخزين الكربون. في المقابل لا يمكن التقليل من التحديات المرتبطة باستخدام هذه البدائل التقنية كون الأمر يحتاج إلى استثمارات رأسمالية ضخمة. فحسب تقديرات لشركة مكينزي الاستشارية يحتاج تطوير أنظمة كفاءة استخدام الطاقة إلى استثمارات رأسمالية تقدر بنحو 170 مليار دولار حتى عام 2020 ويؤمل أن تتجاوز قيمة التخفيضات في فاتورة الطاقة نحو 900 مليار دولار، ما يجعل هذا الاستثمار مجديا اقتصاديا وبيئيا.
ومن هذا المنطلق، توجد مصلحة مشتركة لكل الأطراف المشاركة في قمة كانكون لتكثيف الجهود لتطوير وتعميم استخدام البدائل التقنية على جميع البلدان بما يؤشر ببدء مرحلة جديدة من التعاون لمعالجة ظاهرة تمس بآثارها الجميع من دون استثناء.

ما حجم فرص النجاح في كانكون؟
تبدو فرص نجاح مؤتمر كانكون محدودة، وبالتالي لن يكون مصيره أفضل من مؤتمر كوبنهاجن. وهذه القناعة تبررها المعطيات التالية:
أولا: فاتورة معالجة ظاهرة الاحتباس الحراري تشكل عبئا كبيرا يصعب على معظم الدول الصناعية تحملها في ظل الأزمة المالية العالمية والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها. وتقدر دراسة لشركة الاستشارات العالمية مكينزي تكاليف التحول عالميا نحو اقتصاد قليل الانبعاثات الكربونية بنحو 570 مليار دولار سنويا. وتشمل هذه التكاليف: مبان أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة، ووسائل مواصلات أقل تلويثا، وتوليد الكهرباء من مصادر طاقة نظيفة. وإضافة إلى هذه التكاليف الضخمة يتطلب الأمر إحداث تغييرات جذرية تمس حياة الأفراد في الدول الصناعية. فعلى سبيل المثال يبلغ معدل ما ينتجه الفرد يوميا من انبعاثات كربونية في الدول الصناعية ما بين 27 – 63 كيلوجراما للفرد اعتمادا على عوامل عدة من بينها مستوى الدخل الفردي وموقع السكن. وحتى يمكن الوصول إلى مستوى لا يسبب إضرارا بالمناخ يجب أن يتم تخفيض ما ينتجه الفرد من انبعاثات كربونية إلى نحو ستة كليوجرامات في اليوم، وهذا يتطلب تغييرا جذريا في نمط حياة الأفراد في الدول الغربية، الأمر الذي يصعب تصوره.
ثانيا: رغم الإجماع الضمني للأطراف المشاركة في كانكون على خطورة ظاهرة الاحتباس الحراري على مستقبل الأرض تبدو الهوة واسعة بين الأطراف وتحديدا بين الصين والولايات المتحدة. وفي ظل التنافس المحموم والظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها الأخيرة، من الصعب تصور تبني الدولتين، إضافة إلى الدول الصناعية والنامية لإجراءات بيئية صارمة قد تؤثر على تنافسية القطاعات الإنتاجية فيها. وبالتالي سيبقى التباين الحاد في المواقف بين الدول الصناعية والنامية سيد الموقف ما يخفض بدوره سقف التوقعات من هذا التجمع العالمي.
ثالثا: مع أن الإدارة الأمريكية الجديدة أظهرت تحولا جوهريا ومفاجئا فيما يتصل بسياستها في التعامل مع قضية المناخ العالمي قياسا بالإدارة السابقة فأعلنت أنها ستشكل ''فصلا جديدا في الزعامة الأمريكية لقضية تغير المناخ، من شأنه أن يعزز أمن الولايات المتحدة ويخلق ملايين فرص العمل الجديدة''، إلا أن السياسات المحلية تقيد طموحات إدارة أوباما للدخول في معاهدة دولية ملزمة قانونيا. ففي كوبنهاجن عرض الرئيس أوباما تخفيضا بنسبة 17 في المائة من الانبعاثات في الولايات المتحدة قياسا بمستويات 2005 لكنه رهن هذا الموقف بشرط أن يتم تمرير التشريع المحلي لحدود الانبعاثات في الكونجرس. وهناك الآن فرصة ضئيلة للموافقة على مثل هذا التشريع بسبب المعارضة داخل الحزب الديمقراطي والنفوذ المتزايد الذي حصل عليه الجمهوريون في انتخابات الكونجرس النصفية التي جرت مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
وهذه الإشكالية ستخيم على أجواء المفاوضات في كانكون، فبدون التوصل إلى اتفاق ضمني بين الإدارة الأمريكية والكونجرس على سقف أعلى للانبعاثات في الولايات المتحدة، لن يكون في وسع المفاوضين الأمريكيين التفاوض بشأن معاهدة تحدد السقف الأعلى للانبعاثات العالمية. كما أنه من المستبعد أن يكرر هؤلاء المفاوضون أخطاء برتوكول كيوتو، حيث وقع البيت الأبيض على البروتوكول، ولكن الكونجرس لم يصادق عليه مطلقا.
وفي ضوء هذه المعطيات تبدو كفة الفشل في مفاوضات كانكون هي الأرجح وهذا ما عكسته مشاركة عدد أقل من الزعماء في قمة كانكون مقارنة بقمة كوبنهاجن ما يجسد تراجع الثقة بين الدول الصناعية والنامية في تتويج المفاوضات التي امتدت لنحو عقدين باتفاق عالمي ملزم.
يبقى من المهم القول إن صناعة النفط تواجه تحديات عدة لعل أهمها الغموض الذي يحيط بالاستقرار المالي العالمي، والذي قد لا يقل خطورة عن التحدي المتمثل بمحاولات الدول الصناعية تحميلها مسؤولية انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وإدخال أنواع بديلة للمشتقات النفطية في قطاع النقل، وصولا إلى تحقيق تخفيضات في الطلب العالمي على النفط. لكن ما يدعو للاطمئنان على مستقبل صناعة النفط الحجم الهائل للاحتياطيات المثبتة للنفط التي تقدر بنحو سبعة تريليون برميل والنمو السكاني العالمي الذي يتوقع أن يرفع إجمالي سكان العالم إلى 9.5 مليار شخص بحلول عام 2050 والذي بدوره سيرفع استهلاك المصادر الأولية للطاقة بنسبة 60 في المائة عن مستوياتها الحالية على افتراض ارتفاع مستوى المعيشة في الدول النامية والناهضة. وسيكون المحرك الرئيس لنمو الطلب على النفط قطاع النقل، حيث يتوقع ارتفاع عدد السيارات الصغيرة من 650 مليون عام 2005 إلى 1.4 مليار عام 2030، وبنسبة ارتفاع تصل إلى 131 في المائة. وفي ظل عدم وجود بديل معقول لمحركات الاحتراق الداخلي حتى الآن، سيستمر استخدام النفط في الازدياد لسنوات كثيرة مقبلة. وحتى بافتراض تزايد حصة مصادر الطاقة المتجددة فمن المتوقع أن يلجأ العالم إلى ''سلة'' من مصادر الطاقة تبقى فيها حصة الأسد للنفط.
ولكون الآثار الضارة للتغير المناخي تطاول الجميع من دون تمييز، من المهم التفاعل بإيجابية في مفاوضات التغيير المناخي بما يمكننا من المساهمة بتطوير الأطر القانونية والتشريعية الملزمة عالميا لكل الأطراف وحسب مساهمتهم في حجم الانبعاثات والعمل مع شركاؤنا على عدم انحرف مسار المباحثات الأممية بما يخدم مصالح الدول الصناعية على حساب الدول النامية والمنتجة للنفط. فالمطلوب موضوعيا السيطرة على انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وليس إيقافها وبلورة أطر الرقابة وتطوير آلياتها ومساعدة الدول النامية ماديا وتقنيا للوفاء بالتزاماتها، عوضا عن رفع شعارات تنادي بتخفيض الاعتماد على النفط المستورد من الشرق الأوسط تحديدا، وربط ذلك بالهدف النبيل المتمثل بالتغير المناخي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي