في عين العاصفة «2»

كان أحد رجال الأعمال من المشتغلين في النشاط المصرفي والعقاري قد كتب إلي مستفسرا: هل ضعف الاقتصاد الأمريكي هو أمر عابر من قبيل التقلبات الدورية المعتادة، أم هو خلل متجذر يشير لمرحلة جديدة؟ وهل ستفلح خطط الإنقاذ في استعادة الاقتصاد الأمريكي والدولار لريادته الدولية؟ والسؤال الأهم هو: هل نستطيع - عمليا وواقعيا - نحن هنا كمسؤولين ورجال أعمال ومصرفيين وشركات وأفراد، ونحن في عين هذه العاصفة، أن نفعل شيئا من أجل حماية مدخراتنا ومصالحنا وما هو؟ وسأجيب عن السؤالين الأولين في مقال اليوم، وأترك السؤال الأخير لمقال الأسبوع القادم.
أحب أن أبدأ بالقول إن علينا التمييز بين الحقائق والآراء. فالأولى غير قابلة للجدل، والثانية تكهنات قد تختلف حولها الآراء، لكنها ليست تكهنات اعتباطية، بل هي آراء تستند إلى أساس من المعرفة بالقوانين الاقتصادية والخبرة بحوادث الماضي، فهي إذاً من قبيل ما يسمى بالحدس العلمي educated guess. بيد أنها تظل بالطبع آراء تحتمل الصحة والخطأ.
وبناءً على ذلك، فإن الحقيقة الناصعة والماثلة أمامنا فيما يتعلق بالاقتصاد الأمريكي وعملته الدولارية وبكلمة واحدة، هي التراجع والضعف! أمريكا اليوم ليست هي أمريكا خمسينيات وستينيات القرن الـ 20. قوة الاقتصاد الأمريكي وقدرته التنافسية تتراجع بشكل ظاهر، ومن الطبيعي أن يكون هذا هو حال الدولار أيضا. وفي آخر تصريح لرئيس بنك الاحتياط الأمريكي برنانكي، أقر بأن الاقتصاد الأمريكي ما زال أمامه خمس سنوات عجاف حتى يستعيد صحته! إذا ضعف الاقتصاد الأمريكي ليس أمرا عابرا من قبيل التقلبات الدورية المعهودة، بل هو ضعف عميق متجذر، وهو بالفعل يشير لمرحلة جديدة، فالأمر مختلف هذه المرة!
أما هل ستفلح خطط الإنقاذ في استعادة الاقتصاد الأمريكي والدولار لمكانته الدولية؟ هذا السؤال ينقلنا إلى جانب التوقعات. وفي هذا الشأن انقسم المحللون إلى فريقين: فريق يرى أن أمريكا قادرة بحيويتها ومرونتها على استعادة عافيتها الاقتصادية. وفريق ثان يرى أن الأمر مختلف هذه المرة، وأن أمريكا بلغت عنفوانها، وأنها لأسباب بنيوية وهيكلية بدأت رحلة التراجع. نعم قد يظل الاقتصاد الأمريكي متماسكا لعقد أو عقدين، بيد أنه لن يعود لسابق قوته! وفي أحسن الظروف ستنكمش الولايات المتحدة على نفسها خلال العقود الثلاث القادمة لتصبح واحدة من الدول المتقدمة، ولكن ليس الدولة الأقوى. لماذا؟ لأن مشكلة أمريكا ليست من نقص في الموارد أو ندرة في العقول، بل هي من خلل في صميم نظامها الاقتصادي والأخلاقي الذي أخذ يُحيـّد من مزايا مواردها وعقولها. ألا ترى كيف أن المنتجين الحقيقيين في المجتمع غدوا ينالون الفتات بينما يستولي أفَّاقو الشركات ولصوص البنوك من أمثال مادوف على معظم المكاسب! أمريكا تحصد اليوم تداعيات الانفلات الذي نجم عن نظامها المالي المنفلت باسم الحريات. هذا النظام الذي أسفر عن نمو هائل في الأدوات والمشتقات المالية داخليا ودوليا، حتى غدا الناس يستهلكون ما لا ينتجون، ويستوردون أكثر مما يصدرون، ويبيعون ويشترون ما لا يملكون حتى أضحت الأموال تُدار في أنشطة مالية وهمية غير حقيقية لا تولد قيما مضافة، وإنما يكسب فيها طرف ما يخسره الطرف المقابل. وهو منطق مناقض لنواميس الكون ولا بد له أن ينهار! وهكذا أصبح الاقتصاد الأمريكي يدار من قبل أيدٍ خفية سيطرت على الاقتصاد والإعلام والقرار السياسي حتى باتت لا تراعي المصالح الاستراتيجية للبلد الذي تنعم بخيراته.
يقول المحلل الاقتصادي نسيم طالب، وهو أحد أبرز خبراء الاقتصاد الذين حظوا بشهرة عالمية بعد نشر كتابه ''البجعة السوداء''، ومن الذين حذروا من الأزمة المالية العالمية قبل حصولها: ''إن الرأسمالية الأمريكية تعاني مشكلة بنيوية لم تتمكن من معالجتها، وتتعلق بعدم وجود محاسبة حقيقية للشركات التي ترتكب الأخطاء بحق المساهمين، بل استمر مديروها يتلقون المكافآت الضخمة، رغم الخسائر التي منيت بها شركاتهم''. وهو يتوقع حدوث أزمات أخرى في المستقبل؛ لأن هناك مشكلة في قلب الرأسمالية تولد هذه المشاكل.
ونحن نرى الآن أن سياسات التحفيز العنيفة التي تبنتها الحكومة الأمريكية لم تنجح في تغيير الحال؛ لأن الخلل بنيوي، فما زال نمو الاقتصاد الأمريكي هزيلا، وغير قادر على المنافسة على المستوى الدولي؛ نظرا لعدم قدرته على تخفيض تكاليف الإنتاج أسوة بمنافسيه، خاصة من الاقتصاديات الناشئة. ومن ناحية أخرى، ما انفك معدل البطالة يراوح مكانه، كما أن احتمالات تحسنه في المدى المنظور ضئيلة، بل مستبعدة باعتراف المسؤولين الأمريكان، كما صرح أخيرا برنانكي. بل إنك لترى المشاكل اليوم تعصف بالمجتمع الأمريكي أينما شرَّقت أو غرَّبت. حتى أصبح الخبراء يتحدثون عن مخاوف من انفجار أزمة أخرى تتعلق بديون حكومات الولايات والمدن المحلية. الأمر الذي لو وصل لطرق مسدودة فسيكون وباله وخيما على الاتحاد الفيدرالي الأمريكي وسيمثل معولا في هدم أول طوبة في جداره، حينها ستبدأ بعض الولايات الغنية المطالبة بالاستقلال عن الاتحاد الفيدرالي؛ لعدم رغبتها في تحمل ديون الولايات الضعيفة.
وهكذا، فأنت ترى الصورة كالحة وستزداد سوءا. وعلى حد قول أستاذَي الاقتصاد في جامعة هارفرد كينيث روجوف وزميله كارمن راينهارت في كتابهما الذي نشر عام 2009 تحت عنوان ساخر ''الأمر مختلف هذه المرة''، قال الرجلان بعد أن استعرضا تجارب قرون عدة من تاريخ الأزمات المالية، أن تعافي الاقتصاد الأمريكي سيكون بطيئا وطويلا في ظل مستويات بطالة مرتفعة على نحو مستمر، وأن هذه قاعدة تشاهد في أعقاب أي أزمة مالية عميقة. وأضافا أن تعافي النظام المالي سيستغرق وقتا حتى يبدأ الائتمان في التدفق على النحو المناسب من جديد. وأن ضخ أموال دافعي الضرائب بكميات ضخمة إلى شرايين المؤسسات المالية العملاقة لا يكفي لحل المشكلة الأعمق المتمثلة في التخلص من الروافع المالية المفرطة. كما أن تأجيل علاج سوء توزيع الدخل يشكل واحدا من أسباب الخلل التي تراكمت في اقتصاد الولايات المتحدة أثناء فترة الازدهار التي سبقت الأزمة. وإذا استمر هذا الخلل فإنه ينذر بعواقب سياسية واضطرابات اجتماعية وخيمة. وأضافا أن العربدة المحمومة في الإنفاق التحفيزي لا تقودنا إلى مناقشة عقلانية لحدود الأنشطة التي يتعين على الحكومة أن تضطلع بها. وينهي المؤلفان حديثهما بتأكيد أنه لا توجد حلول سحرية وسريعة لعلاج المشكلة، وأن على الأمريكيين التحلي بالصبر لسنوات عديدة قبل أن يستعيد القطاع المالي صحته ويتمكن الاقتصاد من التسلق ببطء للخروج من الحفرة التي انزلق إليها.
باختصار أمريكا ستبقى لبعض الوقت دولة قوية، بيد أن قوتها النسبية ستتراجع وكذا قوة ومكانة الدولار، وعلى من يهمه الأمر تقدير فوارق التغيير!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي