القصور في صيانة المرافق الحكومية سببه طبيعة عقودها
في كل مرة أحط فيها في مطار الرياض ينتابني نوع من الكآبة لوضع المطار. وبالرغم من تحسن المطار في السنة الأخيرة من حيث التجهيز والصيانة، إلا أن الطريق أمامه لا يزال طويلاً ليصل إلى الحد الذي نفخر به.
وبعد كل مرة أحط فيها في المطار، أمر بفترة من البحث عن أسباب هذا التأخر. وفي المرة الأخيرة كان لي نقاش مع زميل خبير في هذا المجال، لعلي اكتشفت معه أحد أسباب مشكلتنا مع صيانة المطارات، بل سبب مشكلة الدولة مع عقود الصيانة بشكل عام.
فعقود التشغيل والصيانة في الدولة عادة ما تأخذ شكل عقود لتأجير العمالة، حيث تقوم الجهة الحكومية صاحبة المرفق بتقدير عدد العاملين المطلوبين لتشغيل وصيانة المرفق وبتحديد مستوياتهم ومسمياتهم الوظيفية (بل وجنسياتهم في كثير من الأحيان) ومن ثم تفتح باب المناقصة أمام شركات التشغيل والصيانة التي لا يبقى لها إلا تقديم أقل سعر ممكن على العمالة المذكورة (وذلك لعدم وجود معيار آخر غير السعر لتتم المفاضلة خلاله). وبالتالي يتم اختيار شركة التشغيل والصيانة التي تقدم أقل سعر. هذه الشركة بدورها تنتهي مسؤوليتها بشكل أو بآخر بمجرد جلبها للعمالة المذكورة ووضعها تحت إمرة صاحب المشروع، ولأنه كان ينافس في السعر، فلا أحد يتوقع أن يكون بين هذا الطاقم الذي جلبه أي عالم للذّرة أو أي شخص ذي ميزة تذكر.
في المقابل، نجد العديد من الجهات والحكومات التي نجحت في ترسية عقود التشغيل والصيانة، أخذت تبتعد عن مفهوم تأجير العمالة وتستبدله بفكرة المقاولة على مستوى خدمة معين (بغض النظر عن الموارد اللازمة للوصول إليه). فبدلاً من صياغة عقد صيانة وتشغيل المطار على سبيل المثال بتحديد عدد الكوادر اللازمة له، يتم صياغة العقد بتحديد جوانب التنفيذ اللازمة فيه على وجه دقيق (على سبيل المثال: أنه يتطلب نظافة وتجهيز عدد 20 دورة مياه كل ساعة على الأقل، والتنظيف لأرضيات بمساحة 10.000 متر مربع كل ثلاث ساعات، وتنظيف زجاج بمساحة 20.000 متر كل يوم، وصيانة سيور العفش مرة في الأسبوع على الأقل، وإصلاح الأعطال في مدة أقصاها 24 ساعة ... إلخ) ومن ثم ترك الأمر لشركة التشغيل والصيانة لتقدير حاجتها من الأيدي العاملة والأجهزة وتقديم عروضها على أساسه. وبهذا يصبح التزام شركة التشغيل والصيانة هو التزام بتحقيق نتيجة وليس مجرد التزام ببذل مجهود.
وقد سألت عددا من الزملاء والأقارب الذين يعملون في مجال العقود الحكومية، والذين ذكروا لي أن هناك عددا من التجارب لتحويل عقود التشغيل والصيانة في السعودية إلى أسلوب تحديد مستوى الخدمة بدلاً من تحديد العمالة، وأن هذه التجارب كانت ناجحة جداً لكل من الشركة والحكومة. ولكنهم في المقام نفسه ذكروا لي أن العقبة أمام التوسع بهذا النوع من التعاقد تكمن في أنه يتطلب قدراً أكبر من المجهود والدقة في إعداد المواصفات وتحديد مستوى الخدمة بشكل دقيق وقت التعاقد، كما أنه يتطلب قدراً أكبر من الجهد على صاحب المشروع بعد التعاقد في أعمال التفتيش للتأكد من بلوغ مستوى الخدمة بشكل دوري. ولكن الفائدة الكبيرة المتحققة من هذا النوع من العقود تستحق بذل مزيد من الجهد.
لذا فإني أنادي الجهات الحكومية، وخصوصاً تلك التي تدير مرافق كبيرة، بمحاولة تحويل عقود التشغيل والصيانة لديها من عقود توريد العمالة إلى عقود تحديد وضمان مستوى الخدمة.