الزواج والأسرة .. الأسرار والمتطلبات
لا توجد هناك مؤسسة اجتماعية في أهميتها بالنسبة للإنسان والمجتمع مثل الأسرة، لكن هل نخطط ونهندس لبناء هذه المؤسسة على مستوى أهميتها في حياتنا، هل الرجل يستعد ويكتسب المهارات المطلوبة ليكون زوجا وأبا صالحا، وهل المرأة هي الأخرى تستعد نفسيا وثقافيا وينقل لها ما هو مطلوب من مهارات وخبرات لتكون زوجة وأما صالحة، هل الواحد منا يجلس مع نفسه قبل الزواج ليكتشف مكنوناتها وعقدها وأوجه القوة والضعف فيها قبل أن يمارس دوره كزوج، هل تتاح لنا الفرصة كرجال ونساء أن نتعرف على ثقافة الطرف الآخر في إطار ما يحمله مجتمعنا من ثقافة وأخلاق ليس على مستوى الظاهر وإنما في طبقات اللاوعي غير المرئية وغير المحسوسة، هل يعلم المُقدِم على الزواج أن أكثر من نصف سعادته في هذه الحياة هي الآن على المحك وهي مرهونة بنجاح هذه المؤسسة وهذا الزواج، فالدين هو مشروع سعادة للإنسان على هذه الأرض، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وبالتالي هناك حق للإنسان على نفسه أن يستعد وأن يخطط لإحراز نصف دينه بالزواج؟
نحن نعلم أن الحياة أصبحت أكثر تعقيدا وتشعبا وأكثر اتساعا، وكل ذلك له انعكاسات ملموسة على الإنسان والأسرة؛ فكل شيء في الحياة صارت له معرفة تنظمه وثقافة تحيط به وفنون لتفعيله وممارسته. هل تعلم المرأة ماذا فعلت الثقافة الذكورية الراسخة في مجتمعاتنا في بناء وتكوين شخصية الرجل الزوج والأب، وهل يعلم الرجل ماذا جنت الثقافة التي تحط من قيمة المرأة على نفسيتها ورؤيتها للحياة، هل نعلم أن الزواج قد يكون فاشلا وأن الأسرة قد تكون منهارة حتى ولو لم يكن هناك طلاق؛ لأن هناك أسرا تعيش طلاقا مخفيا وصامتا، وأن الزوج والزوجة كليهما أو أحدهما يعيش المرارة والسقم في ظل هذا الزواج الشكلي، هل نعلم أنه إذا كانت البيئة مسؤولة عن نصف أمراض الإنسان فإن الزواج والأسرة المريضة تتكفل بالنصف الآخر من الأمراض؛ لأن عدم الشعور بالسعادة يسحق الإنسان من الداخل ويهزم ما عنده من أنظمة دفاعية ومناعية، وعندما ينهار الإنسان من الداخل يهزمه ويتقوى عليه أصغر وأضعف مخلوقات الله وهي البكتريا والفيروسات؟
هل نعلم أن الزواج وبناء الأسرة هو إيجاد بيئة تتقارب فيها إرادتان وتتشابك فيها نفسيتان مختلفتان، وتلتقي فيها ثقافة شخصين عاشا في ظروف مختلفة، وبالتالي يكون الوقت مهما في إنجاح هذا التقارب وسلامة هذا اللقاء والتشابك؟.. إن النسبة الأكبر من الطلاق هي في السنوات الثلاث الأولى من عمر الزواج، وهذا دليل صارخ على أن أكثر المطلقين قد يكونا زوجين لم يعطيا الفرصة الكافية لزواجهما لكي ينجح. فمسيرة التقارب بين الزوجين هي عملية نفسية صعبة، وفي طريقها الكثير من العقد النفسية والمشاعر المكبوتة، ولكي ينجح هذا التقارب ويتم العبور إلى الآخر واللقاء به فلا بد من تجاوز هذه العقد وتنفيس هذه المشاعر. وكيف لهذا العبور أن يتم ولهذا التقارب أن ينجح ونحن لا نجيد فن الحوار ونعيش الصمت المطبق في علاقتنا مع بعضنا. ألا يحق لتلك الزوجة التي تبكي بحرارة وهي تقول إنها لا تريد من زوجها إلا التحدث معها؟.. فهي تقول أعيش جوعا حقيقيا للحوار معه، إنه بأسلوبه هذا يريد مني أن أتعلم لغة الإشارات والرموز، فهو يتجنب أن يناديني باسمى، ويتعمد ألا ينظر إليّ عندما أريد التحدث معه وهو يلح عليّ بأن أختصر في الكلام حتى قبل أن أبدأ فيه. فالمقدرة على الحوار هي تعبير على مدى انفتاح وانغلاق الإنسان، وهو مؤشر على سعة ما عندنا من تسامح وقبول للآخر، فالإنسان الذي لا يجيد الحوار هو إنسان منغلق على نفسه، فلا تستطيع الزوجة أن تدخل عالمه المغلق، ولا هو يستطيع أن يخرج من غربته ليعيش زواجا ناجحا وحياة سعيدة. فلا زواج ناجحا ولا سعادة مرجوة في أسرة ينعدم فيها الحوار.
وهناك أسر تعيش في العصر الجليدي لشدة انحسار العواطف والمشاعر الدافئة فيها، والنفس كما هو الجسد تريد الدفء، ومن فضل الله على الإنسان أن أعطاه مصادر متجددة ولا تنضب تتفجر منها العواطف والمشاعر الدافئة، لكن جهله وأنانيته تجعله يكفر بهذه النعمة ويتعالى عن استخدامها واستثمارها، وبذلك يحرم نفسه من بركات هذه العواطف وخيراتها. يحسب الكثير من الرجال أن إظهار العواطف والتعبير عنها هو انتقاص من رجولته وجديته، إنهم لا يعلمون أن هذه العواطف ما هي إلا مظهر من مظاهر الرحمة والإنسانية، وكلما سمح الإنسان لعواطفه الصادقة أن تظهر وأن ترتقي به يصبح هذا الإنسان أكثر قربا من الله وأكثر استعدادا لتقبل رحمة الله وبركاته، فالأكثر رحمة من بيننا هو الأقرب من ربنا الذي هو أرحم الراحمين، والأكثر تحننا منا هو الأقرب من أكرم الأكرمين. إن العالم المتحضر اليوم يؤكد بعلومه وخبراته أن الذكاء العاطفي هو الجسر الذي يعبر منه الإنسان إلى عالم السعادة والنجاح، فكيف لنا أن ننجح في زواجنا ونحن لا نعرف قيمة العواطف في بناء علاقاتنا الأسرية. هناك من هو لا زال يعيش السطحية في معرفته فيعتقد بأن للإنسان عقلا واحدا وظيفته التفكير والتنظير وتحليل الأمور، ولا يعرف أن للنفس عقلا أيضا وللروح عقلا آخر تفكر به، فالنفس تموج فيها العواطف وتتلاطم فيها المشاعر والأحاسيس، وهي عندها عقل وهذا العقل في حاجة إلى ذكاء عاطفي لتوظيف هذه العواطف وترشيد هذه المشاعر والأحاسيس في علاقاتنا مع الآخرين، وبالأخص مع أزواجنا وهم أقرب الأقربين لنا وأكثرهم التصاقا بنا. كيف لشجرة الزواج أن تنمو وتنشر ظلالها وتعطي بركاتها على الزوجين والأسرة والمجتمع بأكمله، ونحن نريد أن ننبتها في نفوس متحجرة وأرواح يابسة لا تعرف العواطف ولا تفهم لغة المشاعر والأحاسيس. فالزواج ينكمش والأسرة تعيش الغربة وتفقد معناها عندما تغييب العواطف وتذبل المشاعر والأحاسيس.
فعلا، إن الزواج محطة مهمة في حياة الإنسان والوصول إلى هذه المحطة في حاجة إلى الكثير من المتطلبات الفكرية والثقافية والنفسية لمن يريد أن يعيش فعلا السعادة الحقيقية، والأسرة هي كيان مقدس يحتاج بناؤه إلى أسس، وهذه الأسس منها ما هو في حاجة إلى قدر من الذكاء العقلي والفكري، ومنها، وهي أعلى مرتبة في الأهمية، ما هو في حاجة إلى ذكاء ثقافي؛ لكي يبنى عليه كل من شخصيتَي الرجل والمرأة، ومنها وهي أيضا في المراتب العليا من الأهمية، ما هو في حاجة إلى ذكاء عاطفي يبنى عليه جسور التواصل بين الزوجين، فكلما كان هناك درجة عالية من الذكاء العاطفي كان هناك تقارب أكبر وتفاهم أفضل وانسجام أحسن بين الطرفين.
هذه هي المحاور الرئيسة في الحديث عن الزواج وما فيه من أسرار وما له من متطلبات، فرؤيتنا لأنفسنا كرجال ونساء ونظرتنا إلى بعضنا بعضا كشركاء وعلى أسس فكرية سليمة هو المحور الأول، ولعل أهم ما في هذا المحور هو مناقشة البعد الإنساني في النظرة إلى المرأة. وأما المحور الثاني فهو المحور الثقافي وسيكون الحديث فيه حول الكثير من القضايا والأطر الثقافية التي تحفظ للزواج سلامته، وأما المحور الثالث والأخير فهو المحور النفسي، وهنا تتكشف لنا الكثير من الأسرار وندخل في الكثير من الغرف المظلمة في داخل نفوسنا لنعرف كيف أن للأمور النفسية الدور الحاسم في إنجاح الزواج شكلا ومضمونا. ليس هناك خيار أمام الإنسان إلا أن يتزوج ويجتهد في بناء أسرته، وبالتالي يكون من المنطقي أن نأخذ هذا الخيار وعندنا الحد الأدنى من الاستعداد له، وهذا هو الغاية المرجوة من كتابة هذه الحلقات.