التفكير الاستراتيجي
منذ نحو عشر سنوات على الأقل والمخلصون في عالمنا العربي يشيرون إلى أهمية القيام برصد واع وتقدير حكيم للتبعات المترتبة على تطور وتغير التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تواجه مجتمعاتنا العربية داخليا وخارجيا، في ظل عصر تلاحقت فيه سلسلة من تبدل التوازنات الدولية، وتسارع التطورات التقنية في مجال الاتصالات، وزيادة انفتاح المجتمعات على بعضها بعضا عالميا. وأكدوا أن هذه التحديات تستدعي مناهج تفكير وأساليب إدارة مغايرة لما ألفناه في الماضي.
واليوم بات واضحا أن هذه التحذيرات أمست حقيقة ماثلة أمامنا، وأن منطقتنا العربية قد بدأت فعلا مرحلة جديدة عنوانها: الاقتصاد والكرامة، فهما عصبا الحياة! أكد تطور الأحداث الأخيرة أن الناس لا تهمهم الأيدولوجيا ولا نظم الحكم والاقتصاد، ولا الأحزاب، ولا الشعارات بقدر اهتمامهم بما يحفظ لهم كرامتهم وإنسانيتهم، ويضمن حقوقهم الأساسية في الحياة والمعاش. وأن أخطر ما يمكن أن تواجه المجتمعات هو أن يفقد أبناؤها الأمل ويتملكهم الإحباط، فحينها لا يمكن معرفة رد فعل من يستوي عندهم الموت والحياة!
ولأن منطقتنا العربية هي من أكثر مناطق العالم بؤسا وتخلفا، فإنها بحاجة لعقد اجتماعي جديد يرسم طريقا جديدا لحاضرها ومستقبلها. فالمتأمل في حال مجتمعاتنا العربية يلحظ أن معظمها تعاني تحديات اقتصادية وسياسية جسيمة، وتفتقر لخطط وتصورات استراتيجية لكيفية مواجهة هذه التحديات. ومن النادر أن تجد لدى معظم مجتمعاتنا العربية خطط وأهداف واضحة لما تريد أن تكون عليه في المستقبل، شبيهة على الأقل بما انتهجته ماليزيا. وإن وجدت مثل هذه الخطط على الورق فلا تجد لها تطبيقا على الواقع، إما لغياب العزيمة الصادقة للالتزام بهذه الاستراتيجيات، أو لتخلف البيئة الصالحة اللازمة لترجمتها على الواقع أو لكل ذلك مجتمعا. ولو كانت هناك في العالم مجتمعات تشتد حاجتها للتفكير الاستراتيجي أكثر من غيرها لكانت في المقام الأول مجتمعاتنا العربية.
أصبح العمل المبني على محددات استراتيجية ضرورة ملحة تقتضيها تحديات الحياة المعاصرة وتعقيداتها المتلاحقة في ظل عالم اشتدت فيه درجة التدافع والتنافس الدولي. إذ لم يعد هذا الأسلوب ترفا تختص به دول بعينها، بل غدت وسيلة لا غنى عنها لأي مجتمع يرغب في التفكير المستقبلي بشكل سليم، ويروم معالجة التحديات بمنهجية موضوعية تساعد على التعرف على الفرص المتاحة وترتيبها وفقا للأولويات المناسبة للظروف القائمة، ومن ثم استغلال الموارد بأفضل صورة ممكنة. تضع بعض الدول استراتيجيات وطنية قد تغطي 50 عاما مقبلة، حيث تترك ضمن هذه الخطط الاستراتيجية فسحة لتغيرات تكتيكية دون أن يتأثر المسار الرئيس لها.
لا غنى لمجتمعاتنا العربية عن العمل الاستراتيجي للسيطرة على تخلف أوضاعها وتواضع أدائها، ومواجهة زيادة الأعباء الواقعة على الموازنات العامة، دون التأثير في مسؤوليات الحكومات تجاه مواطنيها، خاصة في مجال توفير فرص العمل والخدمات الأساسية. العمل وفق منهج استراتيجي يساعد على مواجهة الظروف غير المواتية وتصحيح القرارات الخاطئة والعشوائية بأقل التكاليف. إنه السبيل لضمان تعاون جميع قطاعات المجتمع نحو قبول التغيير وتطوير أنماط وسلوكيات وهياكل وإجراءات العمل داخل الأجهزة والمؤسسات الحكومية الخدمية والاقتصادية بما يتفق مع طبيعة متطلبات العصر. العمل الاستراتيجي هو جسر بداياته السياسات والأهداف العامة، ونهايته عند البرامج الفعلية. فهل تكفي التطورات الجارية لتقنعنا بأهمية التطوير وتدفعنا لعمل ما يجب علينا القيام به؟