البحث العلمي.. الأنظمة والضبابية ( تعرقلانه)

لست هنا في حاجة إلى الحديث عما للبحث العلمي من أهمية قصوى في تقدم الأمم ورفعتها, وكيف أن دولاً يشار إليها بالبنان على خارطة الدول الأكثر تقدماً لم تكنْ لتصل إلى ما هي عليه لو لم يكنْ البحث العلمي ركيزة أساسية في مسيرة نمو وتطور هذه الدول, لذا تبنت برامج بحثية ضخمة تصل تكلفتها إلى أكثر من 10 في المائة من دخلها القومي, وهذه الدول حكومات وشعوباً تعلم علم اليقين أن مردود البحث العلمي وخصوصاً على المدى البعيد لا يحصى, ففي أمريكا على سبيل المثال كل دولار واحد يصرف من قبل الحكومة الفيدرالية على البحث العلمي يعود على هذه الحكومة بخمسة دولارات.
وحكومتنا تعي هذا الشيء، لذا أقامت المؤسسات التي ترعى البحث العلمي ووفرت لها ميزانيات كبيرة، بل وفي السنوات الأخيرة ضاعفت ميزانيات هذه المؤسسات ودعمت الجامعات وشجعت إنشاء مراكز بحثية عديدة. لكن أقولها وبصراحة وأنا من قلب الحدث "البحث العلمي في المملكة ما زال يراوح مكانه"، وإن كان المجال هنا لا يتسع لنقاش جميع الأسباب التي حالت وما زالت تحول دون تطور ونمو البحث العلمي لدينا، إلا أنني سأستغل هذه الفرصة لطرح نقطتين أرى أنهما الأهم في سلسلة الأسباب التي جعلتنا لا نستطيع تطوير البحث العلمي في بلد يزخر بكل مقومات نمو البحث العلمي، ليكون رافداً من روافد نهضتها, ومصدراً من مصادر الدخل القومي.
السبب الأول: الأنظمة الإدارية والمالية: من المعروف أن البحث العلمي عمل ديناميكي متجدد يقتله جمود الوقت، رتابة العمل، والتعقيدات البيروقراطية، وتحييه الانسيابية الدائمة والمرونة، وكون الأنظمة الحكومية في جميع دول العالم، إدارية كانت أو مالية تتسم بالثبات وصعوبة التغيير. لذا ولتفادي هذه النقطة أوجدت جميع الدول المتقدمة مؤسسات تدعم من قبل الحكومة تعنى بالبحث العلمي، وهذه المؤسسات ذات سيادة مستقلة وأنظمة مرنة تصاغ وتراجع دورياً في أروقة هذه المؤسسات. وإن كانت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية تعد نموذجا وطنيا من حيث الفكرة، إلا أن ارتباطها بأنظمة الدولة في كثير من أمورها جعلها مكتوفة الأيدي، ولم تتح لها الفرصة وعلى مدى أكثر من ربع قرن لتقديم ما نطمح إليه من تطوير للمنظومة البحثية في المملكة. ولو تم تحويلها إلى مؤسسة أو شركة (كأرامكو أو سابك مثلا) ذات استقلالية، تدعم من قبل الدولة لربما كانت في حال أفضل بكثير، بل أعتقد جازماً أنه لربما كانت الآن رافداً من روافد الاقتصاد الوطني المبني على المعرفة. لِمَ لا وهي ستكون شريكاً لنتاج أبحاث علمية عديدة كانت قد دعمتها على مدى ربع قرن!
السبب الثاني: ضبابية أهداف اتجاهات البحث العلمي: البحث العلمي هو ثقافة يجب أن تغرس وتسقى وتقلّم من الشوائب, حتى تكبر ويشتد عودها لتؤتي ثمارها, وليست سلعة جاهزة للاستخدام تشترى أو تباع. والنمو الطبيعي للبحث العلمي يجب أن يمر بمراحل النمو ولا يمكن أن يقفز على أي منها, ومع أنه تم رسم خطة وطنية جديدة طموحة للأبحاث إلا أنها بعيدة كل البعد عن واقع البحث العلمي في المملكة، ومن الوهلة الأولى لاطلاعك على مجالات الخطة الوطنية يخيل إليك أنها رسمت بأيادٍ لم تلامس وضع البحث العلمي في المملكة، وبعيدة كل البعد، على الأقل وجدانياً عن واقع البحث العلمي، لذا جاءت في أولويات الخطة الاستراتيجية مجالات تفتقد المملكة لأهم مقومات البحث العلمي فيها, ومن أهم هذه المقومات توافر البنية التحتية البشرية والمادية والتقنية.
ولا عجب من ضبابية الخطة الوطنية, فهناك شواهد عديدة على أن مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية ـــ وهي المرجعية الأولى للبحث العلمي على مستوى المملكة وراعي الخطة الوطنية للأبحاث ـــ تفتقد لأي إحصائيات عن الباحثين في المملكة ومجالاتهم أو الإمكانيات المتوافرة لديهم, لذا كيف يمكن أن يتوقع لها أن تشرف على رسم خطة وطنية شاملة، ولو قبلنا جدلا بإمكانية وضع خطة دون أرقام وإحصائيات دقيقة كان يفترض أن يكون من أولويات الخطة تحديد فترة تأسيسية تتبنى فيها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية برامج يكون مثلا من أهدافها: خلق مرجعية تتمكن من توفير هذه الأرقام ووضع نشر ثقافة البحث العلمي والإبداع, التركيز على بناء بنية تحتية للبحث العلمي (ويشمل ذلك الطاقات البشرية والتجهيزات المعملية), ناهيك عن أنه كان يجب أن تضع من أهم أولويات الفترة التأسيسية تسهيل الإجراءات المالية والإدارية لدعم الأبحاث.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي