التميز السعودي والتقدير العالمي
التميز والإبداع السعودي للعديد من الأفراد أصبح عنوان العديد من المناسبات والجوائز العالمية والإقليمية والعربية والمحلية، وأصبح الحضور المتميز للكفاءات السعودية الفردية وحصولها على أرقى الشهادات الأكاديمية والعلمية والعملية والتقدير لتميزها في مختلف مجالات العمل الإبداعي من الشرعية للطب والهندسة والإدارة والبحوث والأعمال الخيرية والتطوعية إلى تحدي الإعاقة واستثمار القدرات البشرية الهائلة التي منحها الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ للإنسان وأطلق له عنان البحث والعمل والإبداع.
إن التميز والإبداع السعودي للعديد من الأفراد يلقي بظلاله على قطاعات الدولة المختلفة من الحكومي إلى القطاع الخاص والمجتمع المدني والأكاديمي والإعلامي للتعريف بهذه القدرات وإبرازها واحتضانها ورعايتها ورعاية إبداعاتها واختراعاتها وتوفير كل سبل الراحة لمزيد من الإبداع والتميز. ولعل ما دفعني لهذا الطلب هو ما أراه ـــ مع الأسف الشديد ـــ من إهمال مؤسسي لهذه الكفاءات السعودية وتركها تصارع في كل المجالات من أجل لقمة العيش ومحاولة وضع قدم في سلم العلم والبحث والتطوير والذي ينهار بعد سنوات بسيطة جدا بسبب صعوبة الحياة ومطالبها الشخصية والأسرية والاجتماعية والعملية، وأذكر أحد العلماء السعوديين ممن يشار إليه بالبنان في تخصصه وهو من التخصصات النادرة في مجاله وممن تسارعت العديد من دول العالم المتحضر على احتضانه وكسب رضاه للعمل بها وتوفير كل سبل العيش الكريم له ولأسرته وتفريغ كل وقته وجهده وفكره من أجل الإبداع في تخصصه، ولقد ضحى بكل ذلك من أجل وطنه المملكة العربية السعودية والحرص على خدمتها وتطوير مراكز الأبحاث فيها، لكنه ـــ مع الأسف الشديد ـــ بعد عودته بأشهر قليلة وجد نفسه يصارع من أجل لقمة العيش ولم يلتفت إليه ولا لأبحاثه وطموحاته وانتهى به المطاف ببيع وشراء أراض غرب المطار ومنح الدخل المحدود وغترته على كتفه ويحمل سلة الشاي والقهوة والتمر كل يوم قبل المغرب والذهاب لمعمله ـــ آسف ـــ أقصد لصندقته من أجل البيع والشراء في الأراضي لأنها المصدر الوحيد شبه المضمون لإيجاد فرصة عمل وتحسين لقمة العيش ولأنها أيضا لا تتطلب أكثر من صندقة وسلة شاي وقهوة وتمر.
إن منظر هذا العالم السعودي يتكرر بشكل دائم ونفقد مع هذا التكرار المؤلم الكثير من الكفاءات السعودية التي استثمرنا فيها كل الإمكانات المادية والوقتية من تعلم وتطور في أرقى جامعات العالم وعندما حان حصاد بهذا الجهد العظيم لم نلتفت إليها بالشكل العلمي المؤسسي المحقق لخير هذا الجهد والعطاء من الدولة والفرد وتخلي الكبير عن الصغير فضاع الصغير في زحمة الحياة وصراعها من أجل لقمة العيش البسيطة.
إن الاهتمام بالكفاءات السعودية العلمية من خلال البناء المؤسسي السليم وإيجاد الحاضنات لهذه الكفاءات وتوفير كل سبل الحياة الكريمة لها وتفريغها من أجل البحث والتطوير في كل مجالات الحياة التي تحقق لنا التطوير والتقدم ومقارعة أفضل دول العالم في كل مناحي الحياة، خصوصا أننا ـــ ولله الحمد والشكر ـــ نملك كل المقومات التي تحقق ذلك وأكثر، لكن عدم وضوح الرؤية أو غياب الاستراتيجية أو اختفاء المرجعية المعنية بالرعاية والاحتضان لهذه الكفاءات هي التي جعلتها تذوب في مجتمعنا وتتحول إلى قدرات عادية أو أقل من العادية وتفقد الوهج والتميز والعطاء المعتاد منها في حقبة الرعاية والاهتمام والاحتضان العالمي لها خلال دراستها وتعلمها في جامعات العالم المتحضر.
إن النظرة المتأنية والمتعمقة لحجم الخسائر التي نخسرها يوميا نتيجة حجم ما ننفقه على الابتعاث والتدريب وتطوير الكفاءات ثم نخسرها عندما يأتي زمن قطف الثمار والاستفادة مما تم استثماره، ولو التفت كل واحد منا حوله سيرى هذا الهدر البشري للكفاءات السعودية التي نغتالها بالإهمال وعدم المبالاة بينما تتقاتل الدول الأخرى على استقطابها والاستفادة من قدراتها العلمية المتميزة.
دعونا نعيد النظر ونضع الرؤية والاستراتيجية ونحدد القطاعات التي يجب أن تحتضن وتستفيد وتطور هذه الكفاءات، وليس بالضرورة أن يكون القطاع الحكومي الراعي لها، لكن يمكن أن تشارك جميع قطاعات الدولة من خلال منظومة مؤسسية للاستقطاب والتوطين وتحقيق التطوير والاستدامة لهذه الكفاءات لمصلحة الوطن ككل أولا ثم لمصلحة البشرية بشكل عام.
وأخيرا شكرا لكل سعودي وسعودية من كفاءاتنا الوطنية التي بذلت الغالي والنفيس من أجل التميز، وأسأل الله أن يحقق هذا الأمل السعودي البسيط، وفق الله الجهود التي تعمل من أجل وطن سعودي الانتماء، عربي اللسان، إسلامي المعتقد وعالمي الطموح.
وقفة تأمل
''ليس المصلح من أصلح ما أفسد التاريخ، لكن المصلح الذي لا يستطيع التاريخ أن يفسد ما أصلح''.