الدكتوراه أم العالمية؟
يعد انتشار الدراسات العليا علامة على التطور العلمي والمعرفي للمجتمع، خاصة إذا صاحب ذلك مواءمة بين النظريات المعرفية وحاجة سوق العمل، وتعتبر مرحلة الدكتوراه درجة علمية متقدمة تمنح بعد اجتياز مقررات دراسية معينة، سواء اشتملت هذه المقررات على دراسة منهجية أو اختبارات شاملة، كما تسمى في بعض التخصصات أو كتابة بحث متخصص.
وهذه البحوث تعنى بتخصصات دقيقة غالبا تراعي الجديد كأساس لفكرة موضوع البحث، وكلما كان البحث مبتكرا في فكرته ومنهجه كان أعظم فائدة وأثرا، وكلما كان البحث يعود إلى جمع المتفرقات أو التحقيق أو التخريج كان أقل إبداعا، وإن كان في ذاته مفيدا.
ولقد منَّ الله عليَّ سبحانه باجتياز مناقشة الدكتوراه من المعهد العالي للقضاء الأسبوع الماضي، وكان البحث بعنوان ''علاقة السببية دراسة تأصيلية مقارنة''، وحاولت فيها أن أشرح هذه النظرية القانونية وفقا للقواعد الفقهية في أحوال المباشرة والتسبب والمعايير الفقهية المرتبطة بها، كما حاولت استقراء لبعض النواحي التطبيقية في المحاكم لدينا، سواء في المحاكم العامة والجزئية أو المحاكم الإدارية أو اللجان شبه القضائية وقمت بتحليلها وفق رؤية تجمع بين الناحية النظرية والناحية التطبيقية، واكتشفت أن هناك خللا تطبيقيا في التعامل مع قاعدة تقديم المباشر على المتسبب، لتمسك البعض بعمومية هذه القاعدة، مع أن الاستثناءات لهذه القاعدة كثيرة والتي أضعفت العمل بعمومها إلى حد أن النتيجة التي توصلت لها أن المباشرة أقوى من التسبب ما لم يكن تأثير التسبب في الضرر أكثر عند ذلك يقدم على المباشرة، ولا يلتفت لهذه القاعدة والفروع الفقهية خير شاهد على طريقة تعامل الفقهاء الأوائل لهذه القاعدة والاستثناءات لها.
إن أهداف الدراسات العليا في الجامعات ينبغي أن تكون متوائمة مع الحاجة العملية للواقع ويكفيها هدرا للجهد والوقت والمال في بحث أمور أصبحت من التاريخ أو أن تأثيرها بات محدودا في واقع العمل.
وأعود من باب الفائدة العامة لمعنى مصطلح الدكتوراه والنقاش الثائر عليه فمن خلال التعريفات العامة نجد أنها: شهادة جامعية (بالإنجليزية: Doctorate) الأستاذية أو الدكتوراه، وهي أعلى الدرجات والشهادات تخصصا في أحد المجالات، وغالبا ما تُسبق بشهادة الماجستير، والدكتوراه ثاني أعلى درجة في الدول التي تمنح الرسالة (غالبا هذه الدول في وسط وشرق أوروبا) بعد شهادة الهابيليتشن Habilitation.
ومعنى الدكتوراه كمصطلح يأتي من الكلمة اللاتينية docere والتي تعني ''التدريس''، وهو اختصار للكلمة اللاتينية الكاملة licentia docendi وتعني (إجازة التدريس)، وقد تم ترجمة هذا المصطلح في عصر النهضة من الكلمة العربية إلى اللاتينية، وكانت هذه الشهادة (إجازة التدريس) تعطى من قبل الحكومات والمؤسسات التعليمية للعلماء والأشخاص المؤهلين للتدريس. على نحو مماثل، فإن الكلمة اللاتينية doctor والتي تعني في الإنجليزية teacher قد ترجمتها من الكلمة العربية (مُدَرِّس).
بينما نجد البعض نقم على هذا المصطلح وفضل استخدام مصطلح العالمية، فالحاصل على الماجستير يكون حاصلا على العالمية، والحاصل على الدكتوراه يكون حصل على العالمية العالية، وممن شن هجوما على هذه الكلمة (الدكتوراه) العلامة بكر أبو زيد - رحمه الله - في كتابه (تعريب الألفاظ العلمية)، وقال إنه من التشبه بالكفار وأصبح اسمه بعد صدور كتابه هذا لا يسمح فيه لأي كتاب من كتبه بأن يسبق اسمه بحرف (د) أي دكتور خوفا منه من التشبه بالأعاجم الذي نهانا - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بهم، استنادا إلى أن معناها (دك، توراه) أي كبير التوراة، وهو اجتهاد من عالم كبير متفنن لا يختلف على جلالة قدره وسعة علمه وغزارة فقه أحد من العلماء.
وعندي أن المسألة لا تأخذ هذا المنحى والأمر أسهل، خاصة أن معناها الأصلي يرتبط بمفهوم التدريس، إضافة إلى أنها لم تعد من خصائص الكفار حتى تدخل في دائرة التشبه المحرم الذي ورد النص بالابتعاد عنه؛ لذلك ليس هناك إشكال - من وجهة نظري - في هذا المصطلح، إنما الإشكال عندي في سراق هذه الشهادة أو المزورين لها أو ممن يحملون هذه الألقاب من جامعات وهمية أو عن طريق الإنترنت بطريقة تجارية وغيرها من الشهادات المأجورة التي انتشرت، وتجد أن الرجل في وقت قريب يحصل على الماجستير والدكتوراه بطرق ملتوية بعيدة كل البعد عن أصول البحث العلمي والفائدة الناتجة عنه. ولو طلبت من أحدهم نسخة من البحث لقدم لك سيلا من الأعذار والتي توحي لك بشيء من الريبة في الطريقة التي حصل عليها صاحبها.
أسأل الله لكم التوفيق والسداد والحياة الهادئة والبعد عن الضيق والأحزان.