يا وزارة العمل .. ما هذا البرنامج؟!
أمر محير أن تجد الأجهزة الحكومية أن لديها فسحة من الوقت للتسويف والتعامل غير الجاد مع المشكلات التي تعهد إليها مسؤولية إيجاد حلول لها مهما تضخمت تلك المشكلات ومهما بدا أن تأخر حلها خطر داهم عواقبه وخيمة. هذا ينطبق تماماً على وزارة العمل التي جادت بعد طول انتظار بما سمته ''برنامج نطاقات'' وسوقته على أنه الحل السحري الذي سينهي مشكلة البطالة في المملكة ويرفع نسب السعودة في القطاع الخاص. ورغم اهتمامي الشديد بقضايا السعودة وتوطين الوظائف فقد آثرت الانتظار وعدم إبداء أي رأي حول هذا البرنامج حتى تتضح معالمه الرئيسة. ومع وضوح تفاصيل هذا البرنامج على موقع الوزارة على شبكة الإنترنت، ظهر لي أنه إن كان من نتيجة متوقعة لتطبيقه فهو تحقيق اعتماد أكبر على العمالة الأجنبية وإفشال جهود السعودة، وما لم تبادر هذه الوزارة إلى التراجع عنه، فإن معدلات البطالة ستزاد وستتدنى نسب السعودة في منشآت القطاع الخاص بشكل كبير.
فبرنامج نطاقات لا يمثل فقط قبولاً واستسلاماً من قبل الوزارة للواقع المزري الذي يعيشه سوق العمل في المملكة، بل يتعدى ذلك ليصبح برنامج مكافأة للقطاع الخاص على سوء أدائه، حيث يكافئ مؤسسات القطاع الخاص على أدائها المتدني في توظيف العمالة المواطنة بمنحها مزيدا من التأشيرات ما يزيد من اعتمادها على العمالة الأجنبية ويقلل من فرص العمل في القطاع الخاص للعمالة المواطنة. فوزارة العمل قبلت واقع السعودة في كل نشاط واعتبرته يمثل نسبة السعودة المطلوبة من قبل المؤسسات العاملة في هذا النشاط وقررت مكافأتها على ما تحقق مهما كان ذلك متدنيا، بل جعلت المعيار الذي تحتكم إليه الشركات العاملة في أي نشاط هو مستوى أداء أسوئها، فأي شركة نجحت في تحقيق نسبة سعودة تزيد على الحد الأدنى للنطاق الأخضر لها كامل الحق في التراجع عما حققته وتخفيض نسبة سعودتها إلى حدها الأدنى. على سبيل المثال، ففي نشاط الليموزين الذي كانت الوزارة سابقاً تستهدف سعودته بشكل كامل، فإن أي شركة تعمل في هذا النشاط وتزيد نسبة سعودتها على 12 في المائة فهي في النطاق الأخضر، وبالتالي فإن لها الحق في الحصول على أي عدد من التأشيرات ترغب فيه بشرط ألا يؤدي ذلك إلى انخفاض نسبة سعودتها عن 12 في المائة. وفي قطاع تجارة الجملة والتجزئة، الذي تعد معظم وظائفه مناسبة للعمالة المواطنة، ومن ثم يجب أن تزيد نسبة السعودة فيه على 80 في المائة، نجد أن أي شركة تعمل في هذا النشاط وتزيد نسبة سعودتها على 17 في المائة فإن الراية الخضراء ترفرف فوقها عالية وهي محل ترحاب من قبل الوزارة لكي تطلب أي عدد من التأشيرات يحلو لها برجاء وحيد فقط هو ألا يترتب على ذلك انخفاض في نسبة سعودتها عن 17 في المائة. وشركة تعمل في نشاط التأمين وخدمات الأعمال وحققت نسبة سعودة تزيد على 20 في المائة، هي الأخرى مرحب بها لكي تطلب أي عدد من التأشيرات دون أدنى اعتبار لكون معظم ـــ إن لم يكن كافة ــــ وظائف هذا النشاط مكتبية بأجور عالية تناسب العمالة المواطنة تماماً، ما يجعله قطاعا جاذبا للعمالة المواطنة وتستطيع الشركات العاملة في هذا النشاط رفع نسبة سعودتها بشكل كبير إن رغبت حقاً في ذلك أو أجبرت عليه.
ولو وقفت مشكلة هذا البرنامج عند هذا الحد لكان أهون، لكنه في الواقع سيتسبب أيضاً مع مرور الوقت في تراجع مستمر في نسب السعودة المطلوبة في كل نشاط. فعندما تقوم كل شركة نسبة سعودتها تزيد على الحد الأدنى للنطاق الأخضر باستغلال كامل الفرصة المتاحة لها للاستقدام، فإن متوسط نسبة السعودة في النشاط الذي تعمل فيه سيتراجع، وبالتالي فإن النطاق الأخضر هو الآخر سيتراجع وفق هذا المنطق الغريب الذي يحدد نسبة السعودة المستهدفة في كل نشاط من واقع السعودة الفعلية في ذلك النشاط. ومع انخفاض متوسط نسبة سعودة الشركات العاملة في هذا النشاط تصبح مستحقة لأن تكافأ بتخفيض نسب السعودة المطلوبة منها، ما يجعلها مؤهلة لمزيد من تأشيرات العمل دون أن تنتقل إلى النطاق الأصفر، ما يعني عملياً تلاشي النطاقين الأصفر والأحمر مع مرور الوقت بزحف النطاق الأخضر إلى الأسفل، وستستمر هذه العملية إلى أن تصبح نسبة السعودة المطلوبة في كل نشاط تقرب من الصفر. على سبيل المثال، بما أن النطاق الأخضر حالياً لنشاط تجارة الذهب والمجوهرات، وهو نشاط يفترض أنه قد تمت سعودته بالكامل قبل سنين عديدة، يتحقق عند نسبة سعودة بين 20 و59 في المائة، فإن أي شركة تعمل في هذا النشاط وتزيد نسبة سعودتها على 20 في المائة، فإن لها كامل الحق بطلب أي عدد من التأشيرات طالما أنه لن يترتب على ذلك انخفاض في نسبة سعودتها عن 20 في المائة، وعندما تقوم كل شركة عاملة في هذا النشاط بممارسة هذا الحق، فإن ذلك سيعني تلقائيا انخفاض متوسط نسبة السعودة في هذا النشاط، وبالتالي فإن وزارة العمل عند أي تحديد جديد للنطاقات ستخفض النطاق الأخضر لتجارة الذهب والمجوهرات ليصبح مثلاً 15 إلى 30 في المائة، باعتبار أن النطاق الأخضر وكما أشرنا سابقاً لا يمثل على الإطلاق نطاقاً مستهدفاً للسعودة، وإنما يعكس فقط نسبة السعودة المتحققة في هذا النشاط عند لحظة معينة. من ثم فإن الشركات العاملة في هذا النشاط سيصبح الآن بإمكانها أن تطلب أي عدد من التأشيرات بشرط ألا تنخفض نسبة سعودتها عن 15 في المائة وليس 20 في المائة كما كان سابقا، وتستمر هذه العملية حتى نقرب من الصفر في نسبة السعودة في هذا النشاط، وكل ذلك يتم بمباركة وتشجيع من وزارة العمل، التي رأت أن تحفيز السعودة يتم من خلال القبول بالأمر الواقع، ثم منح مزيد من التأشيرات لخلق واقع أسوأ، فنتقبله وننتقل إلى واقع أشد سوءا.
والحقيقة أنه أمر مستغرب أن تتبنى الوزارة مقترحا ليس هناك أدنى صعوبة في رؤية النتائج الكارثية التي تنتظرنا في حال تطبيقه، ويكفي أن تكون معظم منشآت القطاع الخاص في النطاق الأخضر، كما صرح كبار مسؤولي الوزارة، ليكون ذلك جرس إنذار بأن هناك خللا ما في هذا البرنامج، وأنه لا بد أن ينطبق عليه المثل الإنجليزي الذي يقول هذا أشد روعة من أن يكون حقيقة too good to be true. وإلا كيف يمكن أن قطاعا تشكل العمالة الأجنبية 91 في المائة من مجموع العاملين فيه، و78 في المائة منها أميون أو يجيدون القراءة والكتابة فقط و92 في المائة منهم يحملون مؤهلاً ثانوياً أو دون ذلك، ومع كل ذلك تتفشى البطالة في صفوف العمالة المواطنة بحجة عدم ملاءمة تأهيلها لمتطلبات هذا القطاع، ورغم كل ذلك تكون معظم منشآته ليست فقط مقبولة الأداء وإنما أيضا تستحق المكافأة بمزيد من التأشيرات.
في المقال التالي كيف يمكن لوزارة العمل الخروج من هذه الورطة؟