الخميس, 10 أَبْريل 2025 | 11 شَوّال 1446


يا وجودي وجد من اختطف بريده الإلكتروني! .. «قصة تستحق أن تروى»

(كان فحول الشعراء في نجد يتبارون في وصف مدى التعاسة والمعاناة التي يمر بها المحب عندما يحرم من رؤية حبيبته، فيبدأون القصيدة عادة بـ ''يا وجودي وجد''، تعبيراً عن الوجد والوله، فاشتهرت قصيدة ''الخلوج'' مثلاً، والمسافر الذي فقد في الصحراء وهربت راحلته التي تحمل ماءه، والعجوز الطاعنة في السن التي فقدت ابنها وعائلها الوحيد... إلخ).
عندما بدأ ينتشر استخدام الكمبيوتر حاولت مقاومته على أمل أن يختفي من الوجود، إلا أنني مع الظروف ونظرات الازدراء التي كانت تلاحقني ليس من الجيل الجديد وحده وإنما من قلة من أقراني الذين دخلوا هذا العالم وبدأوا في إظهار مهاراتهم أمامي اضطررت إلى تأسيس عنوان بريدي قبل أكثر من 20 سنة، وأوكلت التراسل عن طريقه إلى الزملاء والمساعدين في المكتب. وكنت أخشى الاقتراب منه وكأنه حيوان أجرب سينقل إلي عدواه المميتة في حال ملامستي إياه.
وبعد أن تقاعدت عن العمل الرسمي قبل قرابة أربع سنوات، لم يعد لدي زملاء يمكن أن أستعين بهم، فلم يكن أمامي خيار إلا السباحة حتى ولو كنت أكره الماء أو أخاف منه، وقد ساعدني الأبناء والبنات والأحفاد على الدخول إلى هذا العالم الغريب، فوجدته أكثر ألفة مما تصورت، وضرورة لمن يريد أن يعيش حياته العادية في عصرنا الحالي. ففتحت أكثر من عنوان وأصبحت جميع مراسلاتي تقريباً تتم عن طريق الشبكة العنكبوتية، بل وقلت مكالماتي الهاتفية، فيا لها من أداة طيعة ومفيدة، تحفظ جميع مراسلاتك، وتسترجع ملفاتك متى أردت وفي أي مكان من العالم.
وتذكرت أول وظيفة حكومية التحقت بها في الأول من رجب 1377 هـ ( 1960م) كمأمور ملفات وذلك قبل حصولي على شهادة الثانوية العامة بسنتين، فقد عانيت خلال هذه الفترة من حمل الأطنان من الملفات وترتيبها في غرف قليلة الإضاءة، ولو كانت هذه الأداة موجودة في ذلك الوقت لما حصلت على تلك الوظيفة الحكومية (المحترمة).
والأكثر من ذلك أن أي موضوع يخطر لك على بال ستجد عنه معلومات كافية وحديثة تشفي غليلك، فلم تعد هناك حاجة للرجوع إلى القاموس أو المكتبة، مما ذكرني بالجهود المضنية التي كنا نعيشها أيام الدراسات العليا للحصول على المصادر التي تساعدنا على إجراء البحوث التي يطلبها أساتذتنا. ففي إعدادي لرسالة الدكتوراه اضطررت للرجوع إلى جميع الرسائل التي كتبت حول الموضوع منذ عام 1936 واخترت ما اعتقدت أن له علاقة مباشرة بمشروع رسالتي وبعثت بطلب خطي إلى المكتبة الرئيسية في ولاية مشجن الأمريكية أرفقت به هذه القائمة من الرسائل التي طلبت نسخاً منها مقابل مبالغ أقتطعها من مكافأتي الزهيدة التي كانت تغطي بالكاد الاحتياجات الأساسية لأسرتي المكونة من خمسة أفراد.
وما أكثر المتبرعين بإرسال التقارير الجيدة والحديثة عن مختلف المواضيع التي كانت الدول والشركات في السابق تدفع مبالغ طائلة للحصول عليها، لذا أصبحت هذه الآلة العجيبة جزءا من حياتي، فلم أمسك بالقلم إلا نادراً، ومعظم الوقت سواء كنت في المكتب أو جالساً في البيت مع الأولاد أو مستلقياً على السرير تجدني متسمراً أمام هذه الآلة العجيبة التي أحببتها وأحبتني.
بدأت الصدمة قرابة الساعة السابعة من مساء يوم الأربعاء الموافق الأول من يونيو 2011 عندما كنت أهم بصعود طائرة من مطار الملك عبد العزيز في جدة، متوجهاً إلى عمان في رحلة عمل، فقد تلقيت مكالمة من أحد المصرفيين العاملين في أوروبا والذي كنت أتعامل معه أثناء الإجازة الصيفية وبيننا مراسلات بالإنترنت، حيث سألني إن كنت قد أرسلت رسالة أطلب منه تحويل مبلغ كبير إلى صندوق استثماري في هونج كونج. وأردف بأنه تلقى هذا الطلب باسمي ومن بريدي الإلكتروني وبه صورة جواز سفري وبطاقتي الشخصية، فقلت له إنني لم أرسل هذا الطلب، وهو ما كان يتوقعه، لكنه أكد لي أن عنواني البريدي مخترق، وأن علي أن أتصرف بسرعة. وعندما وصلت إلى عمان فتحت بريدي الإلكتروني، فوجدت كل شيء عاديا جداً، ولم ألاحظ أي رسائل غريبة. وفي مساء اليوم التالي عندما عدت إلى الرياض سألت أحد الفنيين الذين أثق بهم، فذكر لي أنه يمكن الدخول إلى بريدي من قبل شخص غريب والتراسل عن طريقه دون أن أشعر بذلك، ونصحني بتغيير كلمة السر، فوافقت على تغييرها في الحال ونمت قرير العين على أمل إبلاغ جميع من أتراسل معهم بما حصل صباح اليوم التالي، لكنني فوجئت في الصباح بعدم إمكانية الدخول إلى بريدي الإلكتروني، فحاولت استخدام كلمة السر الجديدة أو القديمة دون جدوى، ثم استنجدت بالنظام الذي يلجأ إليه عادة عند نسيان كلمة المرور، وسأل بعض المعلومات التي أجبتها ببداهة إلا أن إجاباتي كانت خاطئة. إذ يبدو أن هذا المتسلط المحترف HACKER قد زود الموقع بمعلومات جديدة لا أعرفها، فأدركت أنني في ورطة ولا أستطيع إبلاغ معارفي وأصدقائي بما حصل، لأن عناوينهم مسجلة على بريدي الإلكتروني المسروق، فاستعنت بمن أعرفهم من خبراء الكمبيوتر من الأقارب والأصدقاء ومسؤولي تقنية المعلومات في بعض الشركات والمؤسسات المالية دون جدوى، وبدأت أتلقى اتصالات محرجة من أصدقائي ومعارفي وأقربائي، كما بدأت أتلقى بعض المكالمات الغريبة، فذهبت إلى أحد فروع شركة الاتصالات السعودية، فطلب مني الذهاب إلى المركز الرئيسي لتقديم معروض وشرح ما حدث للمسؤولين هناك، فإذا اقتنعوا بوجهة نظري قد يستطيعون توفير المعلومات المطلوبة، وعليه توصلت إلى القناعات التالية:
1 – ليس هناك قوة بوليسية معروفة يمكن اللجوء إليها للمساعدة في هذه الحالات.
2 – معظم من يدعون أنهم خبراء كمبيوتر لا تختلف معلوماتهم تجاه معالجة هذه المشكلة عن معلوماتي القريبة من الصفر.
3- عندما تحاول أن تتصل بشركة الخدمات (Yahoo) لا تتكلم إلا مع اتصال آلي يطرح أسئلة محددة، فإذا لم تجب عنها بطريقة صحيحة فما عندك ''قبيل'' أو ''ما لك سنع''.
4 – لا أعتقد أن شركة الاتصالات أو هيئة الاتصالات تستطيع المساعدة، قياساً على رد فعلهم عندما طلبت معرفة المكالمات الغريبة التي تلقيتها.
اقترح العارفون استخدام نفس الأسلوب الذي اتبعه المتسلط على الموقع لاستعادته، وهكذا صار، ففي حدود الساعة الثانية والنصف من يوم الثلاثاء 7/06/2011 أثناء وجودي في اجتماع تلقيت الخبر المفرح، واعتقدت أن ذلك يضع نهاية لتلك المسرحية الهابطة، إلا أنه في يوم التالي (الأربعاء) تلقيت اتصالات هاتفية من بعض المعارف تفيد استلامهم طلبات موجهة لهم من بريدي الإلكتروني تطلب تحويل مبالغ مالية، فاتضح أن هذا الشخص ابتدع بريداً إلكترونياً جديداً لا يختلف عن مسمى بريدي إلا بحركة واحدة تصعب ملاحظتها من غير الحذرين.
وقد تم الاتصال بإدارة ''ياهو'' في الهند التي ذكرت أن متابعة هذا الموضوع ستتم من قبل دائرة أخرى، وحتى الآن لم نتلق أي رد من الجهة الأخرى، وما زلنا نعالج تبعات هذه الأزمة المحرجة بكل المقاييس.
بلغت الخسائر المادية حتى كتابة هذه الورقة أحد عشر ألف دولار، حولها أصدقاء بكل أريحية إلى شخص مجهول في هونج كونج بطريقة التحويل البريدي (وسترن يونيون) ظناً منهم أنها محولة لي، يضاف إلى ذلك أربع ليال من السهر المتواصل حسرة على السذاجة المفرطة وخجلاً من الأصدقاء والمعارف الذين يتلقون هذه الرسائل.
أما الدروس المستفادة من هذه المسرحية السمجة فيمكن تلخيصها بما يلي:
1 – كل بريد إلكتروني قابل للاختراق، ويمكن أن يقوم المخترق بتلقي الرسائل الواردة إليك والدخول إلى رسائلك واستخدام بريدك للتراسل مع الآخرين دون علم منك.
2 – يجب علينا جميعاً أن نتقيد بالنصائح التقليدية لخبراء الكمبيوتر، وعلى الأخص:
أ- عدم استخدام أجهزة الكمبيوتر الموجودة في المقاهي والفنادق والمطارات والأماكن العامة الأخرى.
ب – الحرص دائماً على إقفال بريدك Sign out بعد الاستخدام.
ج – عدم فتح الرسائل الواردة التي لا تعرف مصدرها.
د – تغيير كلمة السر باستمرار وأن تكون مزيجاً من الحروف الصغيرة والكبيرة والأرقام والإشارات التي يصعب اكتشافها.
3 – حاول دائماً أن لا يكون بريدك الإلكتروني مكتوبا على بطاقتك التعريفية. أما إذا كنت مضطرا لذلك فلا تسلم هذه البطاقة إلا لمن تعرف أنه لن يسيء استخدامها، لأن من يحصل على عنوانك الإلكتروني يمكن أن يرسل لك رسالة تحتوي على إشارة تساعده على فتح بريدك الإلكتروني.
4- حاول أن تمسح المراسلات الصادرة والواردة التي لا تحتاج الرجوع إليها. أما إذا كان لا بد من إبقائها فانقلها إلى مكان آخر، ويستحسن نقل نسخة من عناوين الأشخاص الذين تتواصل معهم إلى مكان آخر وتحديثها باستمرار.
5- عندما تقع الواقعة لا تنفعل وقم في الحال بنقل ما تبقى من محتويات البريد إلى موقع آخر، وأشعر قائمة من تتراسل معهم بما حدث عن طريق بريد إلكتروني آخر، وغير كلمة السر لبريدك الحالي، فإن استعادها ذلك المعتدي مرة أخرى فأبلغ بما حصل، واعتبر أن هذا الموقع مسروق ''ويخلف الله''.
6- لا أعرف الممارسات في الدول الأخرى، لكنني أعتقد أن المواطنين السعوديين بشكل خاص والخليجيين بشكل عام مستهدفون من قبل لصوص الكمبيوتر، خصوصاً عندما يسافرون خارج بلدانهم، لذا أقترح إيجاد جهة حكومية متخصصة لحماية المواطنين السعوديين (ذكور وإناث) من هذه الآفة الجديدة.
نسأل الله أن يحمي الجميع من هؤلاء الأشرار وأن يجنبهم تلك المعاناة القاسية وسهر الليالي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي