خريطة طريق للانتقال السلمي للسلطة في سورية
التنسيق هو العنوان الأهم والطابع الأبرز الذي يميز سياسة في الولايات المتحدة، فليس من مصلحة واشنطن أن تعم الفوضى سورية بعد الأسد، أو أن تتطور الأمور لحرب أهلية لا تُحمد عقباها، لهذا السبب نجد واشنطن معنية أكثر من غيرها بضرورة أن يكون الانتقال لمرحلة ما بعد الأسد سلميًا بحيث تتمكن من إدارة التغيير. ولتحقيق ذلك، تلجأ الولايات المتحدة لفتح قنوات الحوار مع القوى السورية المعارضة بهدف تشجيعها على توحيد رؤيتها حتى تبرز قيادات تمنع سورية من دخول مرحلة عدم التيقن كما هو الحال في مصر.
لم تعد الولايات المتحدة معنية بنظام الأسد بعد أن فقدت الأمل في أن يبادره نظام بشار الأسد بإصلاح نفسه، فبعد أشهر من الترقب والتردد بدأت الولايات المتحدة بالفعل بالتخلي عن فكرة إمكانية إصلاح النظام نفسه، وبدأت تخطط لعملية إدارة نقل السلطة من بشار الأسد، الذي فقد شرعية الحكم على المستويين الدولي والعربي، باستثناء إيران التي ترى في زوال الأسد ضربة كبيرة؛ لأنها تفقد ورقة استراتيجية طالما استعملتها في سياق تحسين موقفها الاستراتيجي والتفاوضي مع الغرب.
والسياسة الأمريكية الجديدة حيال سورية تقتضي إيجاد خريطة طريق لنقل سورية إلى طريق الديمقراطية، وبدأت هذه السياسة عندما قالت هيلاري كلينتون - وزيرة الخارجية الأمريكية - في الحادي عشر من الشهر الماضي: إن النظام فقد شرعيته، وكانت هذه أول مرة تستعمل فيها الولايات المتحدة هذا التعبير في وصف موقف أمريكا لما يحدث من تقتيل في سورية ضد الشعب الأعزل. منذ تلك اللحظة، بدأت الولايات المتحدة التفكير جديًا في الانتقال الديمقراطي في سورية.
وتستند الدبلوماسية الأمريكية حول فرضية أن سفينة الأسد تغرق، وأن على أمريكا أن تتأكد من أن الجميع يعون هذه الحقيقة حتى يتمكنوا من القفز من السفينة بحثًا عن مخرج. ويتطلب هذا الواقع بالنسبة للولايات المتحدة العمل مع المتظاهرين السوريين والأتراك وغيرهما من العرب الذين بوسعهم إحداث التغيير. وبهذا المعنى تسعى الولايات المتحدة إلى تشجيع المعارضة السورية داخل سورية على التوحد وتطوير أجندة واضحة وبناء قيادة تشمل الجميع. وما يساعد على هذا الجهد السفير الأمريكي في سورية روبرت فورد، وهو كما تصفه الإدارة، يعد أداة الانتقال في سورية.
بطبيعة الحال، تخشى واشنطن من سيناريو الفوضى بعد رحيل الأسد، ولهذا السبب تحاول واشنطن من خلال سفيرها إعداد العدة مسبقًا عن طريق إيجاد خريطة طريق للانتقال السلمي للسلطة، فالسفير الأمريكي في سورية كما يفيد بذلك ديفيد أغناشيوس من ''الواشنطن بوست'' يشجع المعارضة السورية على أن تتواصل مع الأقليات مثل المسيحيين والدروز والعلويين، فهذه أقليات تخشى من الإخوان المسلمين، الذين من المرجح أن يهيمنوا على الوضع بعد زوال نظام الأسد.
وبناء على هذا الفهم تسعى واشنطن إلى دفع أطراف المعارضة السورية للقيام باجتماعات عمل مكثفة في الأسابيع الماضية حتى تتمكن المعارضة من الاتفاق على أجندة واضحة للعمل، واللافت أن الاجتماعات تحدث داخل سورية. ويقول الناشط رضوان زيادة الذي يقيم في الولايات المتحدة إنه على اتصال مع عدد من الرموز حتى يعملوا معًا لتسهيل ظهور قيادة داخل سورية للتوصل إلى إعلان دمشق، وهو يمكن أن يكون إطارًا للانتقال الديمقراطي.
النقاش العام في واشنطن فيما يتعلق بالوضع السوري يتمحور حول أن المعادلة السورية تتأثر بعاملين: أولاً، هل ستحدث انشقاقات في الجيش السوري؟ بمعنى هل سينضم ضباط مؤثرون للمعارضة ويبتعدون عن النظام ما يضعف النظام وصورة النظام في الشارع السوري والإقليمي؟ فالتقديرات التي تأتي من وكالة الاستخبارات الأمريكية تفيد بأن انشقاقات ستحدث في حال ارتفعت حدة الضغط على نظام الأسد. أما العامل الآخر فيتعلق بالعنف الطائفي بين السنة والأقلية العلوية الحاكمة، فهناك حالات قتل حدثت على أساس طائفي في حماه، وهي نذير خطر للمستقبل.
وعلى نحو لافت، توصلت الإدارة الأمريكية إلى فكرة الانتقال السريع والسلمي للسلطة، فالرئيس أوباما يقول: إن الأسد هو رجل قام باتخاذ كل الخطوات الخاطئة في الرد على المتظاهرين، ولهذا لا بد من العمل على الخلاص من الأسد وزمرته الحاكمة. غير أن الوضع ليس بالسهل وبخاصة مع موقف إيران التي تدعم وبقوة بقاء النظام في سورية لأسباب استراتيجية تخص إيران. والنظام السوري متحالف بقوة مع إيران بحجة المقاومة والممانعة.
وتسربت بعض التقارير التي تفيد بأن إيران كانت قد وعدت بدفع مبلغ من المال يصل إلى 5.8 مليار دولار كمساعدة طارئة للنظام السوري، فإيران تدافع عن نفسها بهذه الحالة، فلم تعد إيران في موقف من يساعد ويؤيد الربيع العربي؛ لأنها في حال نجاح التغيير في سورية ربما ستكون هي من تعاني الأمرين من تغيير يراه بعض الاستراتيجيين قادمًا في إيران في السنوات المقبلة. وتشعر القيادة الإيرانية بأنها لا تملك ترف عدم الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية المتمثلة في التحالف مع سورية الأسد.
في السياق ذاته، تتهم الولايات المتحدة إيران بمساعدة سورية على قمع المتظاهرين، وهنا نشير إلى تقرير نشر في صحيفة ''وول ستريت جورنال'' في الرابع عشر من الشهر الجاري يتناول ما سماه المساعدات السرية التي تقدمها إيران للنظام السوري لقمع المتظاهرين، وتأخذ المساعدة أشكالاً عديدة، منها المساعدة في مراقبة المحتجين على الإنترنت والهواتف الخلوية ورسائل الخلويات وغيرها من الأمور التكنولوجية التي تتأخر فيها سورية. والسياسة الإيرانية تنسجم مع تطلعاتها وأطماعها الإقليمية، فهي في وقت أيدت الربيع العربي في مصر وتحاول التوصل إلى طرق لمساعدة الغلاة من البحرينيين ومن اليمنيين لزعزعة استقرار الأنظمة المتحالفة مع واشنطن، فهي تساعد سورية ضد رغبات الشعب السوري المنتفض على عقود من القمع والديكتاتورية.
والهدف كما تشير الصحيفة من اتهام إيران بمساعدة سورية هو إرسال رسالة واضحة للقيادة الإيرانية بأنها تحت الرقابة الشديدة، وأنها - أي النشاطات الإيرانية في سورية - لا يمكن أن تفلت من الرقابة الأمريكية. وتأتي هذه التصريحات من جانب إدارة أوباما لتطمين حلفاء واشنطن من العرب الذي دائمًا ما يشكون من الرئيس أوباما لحماسه لمصلحة الثورات الشعبية دون أن تأخذ واشنطن في الحسبان كيف تلعب هذه الثورات لمصلحة الخصوم على مستوى الإقليم. كما يمكن وصف التصريحات الأمريكية بالهادفة إلى توجيه رسالة خاصة لكل من السعودية والبحرين اللتين طالما تحذران من التأثير الإيراني وتدخل إيران في الشؤون الداخلية لدول الإقليم دون أن يكون هناك رد واضح من واشنطن.
على أن الموقف الأمريكي من إيران له جذور أهم مما يجري في سورية، ولهذا من المتوقع أن تلجأ أمريكا إلى تذكير العالم مرة أخرى بالملف النووي الإيراني، في حين تسعى واشنطن إلى تعميق التنسيق مع تركيا بهدف تضييق الخناق على الرئيس بشار الأسد، الذي يبدو أنه غير قادر على مجرد التفكير في إصلاح النظام، وهو يلجأ إلى مقولات مثل أن سورية تتعرض لمؤامرة أمريكية - صهيونية، مع أن هذا الكلام في عهد الربيع العربي لم يعد ينطلي على أحد.
إذن؛ عنوان المرحلة الحالية والقادمة هو التنسيق بين تركيا والولايات المتحدة بشأن الملف السوري بعد أن أعلنت تركيا وفي غير مناسبة أنها لن تقف مكتوفة الأيدي حيال ما يجري في سورية من تقتيل لشعب أعزل. وأنقرة انتقلت لسياسة صدام مع سورية بعد سنوات من التقارب التركي - السوري. فقد كان لسياسة ''تصفير المشكلات'' التي اتبعتها أنقرة في سياستها تجاه دول الجوار، التي بدأت مع تولي حزب العدالة والتنمية، أثر كبير في تحسين علاقة أنقرة مع دول الجوار ومن ضمنها سورية، غير أن السياسة الخارجية لأنقرة لم تعجب دوائر كثيرة في واشنطن، وبالفعل توترت العلاقة بين العاصمتين، وكان لهذا التوتر أثر في الطريقة التي بدأ بها بعض المحللين السياسيين في أمريكا تقديم تركيا، فكثر الحديث عن أجندات إسلامية للحزب الحاكم في أنقرة تمهيدًا لشيطنة الحزب وإضعاف هامش مناورته مع تل أبيب.
وبقي التوتر الناعم بين أنقرة وواشنطن حتى وقت قريب عندما هبت رياح التغيير في المنطقة العربية فيما يسمى الربيع العربي، وحاليًا نشهد ما يمكن وصفه بتنسيق واضح بين أمريكا وتركيا حيال ما يجري في سورية، ولم يعد يخفى على أي متابع درجة التنسيق العالية حيال ملف بشار الأسد ونظامه. وكغيرها من الدول، تتأثر السياسة الخارجية التركية بالمتغيرات التي تعصف بالبيئة، والربيع العربي خلق ديناميكيات جديدة لم تكن مألوفة في المنطقة العربية، ولهذا السبب كان على أنقرة أن تعيد النظر في سياسة تصفير المشكلات التي كانت مسؤولة عن ارتفاع شعبية تركيا لدى الجماهير العربية. فلم تعد سياسة تصفير المشكلات - التي اعتمدت على إقامة جسور مع الدول المسلمة والدول العربية بغية خلق القوة الناعمة توطئة لبروز أنقرة كلاعب إقليمي قوي- تكفي لتحقيق تركيا أهدافها، بمعنى أن القيادات التركية لم تعد قادرة على تبرير علاقاتها المتميزة مع الرئيس السوري الذي ينظر إليه في أنقرة كزعيم دولة يقوم بقمع شعبه السوري بوحشية لا يمكن فهمها أو الدفاع عنها أو حتى التغاضي عنها.
بعض الباحثين في الولايات المتحدة بدأ يرصد معالم التغير في المقاربة التركية، فحسبما توصل إليه الباحث التركي المقيم في الولايات المتحدة سونر جاجابتاي، فإن أنقرة بدأت ترى ما يحدث في المنطقة العربية من اضطرابات كمصدر تهديد لا بد من معالجته عن طريق التقارب مع الولايات المتحدة، وهذا ما يفسر التنسيق التركي - الأمريكي الجديد. وفي غير مناسبة، ركزت القيادة التركية على ضرورة أن يباشر الرئيس الأسد الإصلاحات قبل أن يفوت الأوان، لهذا نرى الإحباط التركي مما يمكن وصفه بمماطلات سورية في الإصلاح، لعل ميزان القوى مع المتظاهرين يتغير بشكل يسمح بسحق الثورة دون تقديم التنازلات الضرورية للإصلاح. ولهذا السبب نجد واشنطن تشاطر أنقرة الكثير من أفكارها ومواقفها بهدف تفعيل الضغط على نظام الأسد في دمشق.
التنسيق التركي مع الولايات المتحدة جاء نتيجة لقراءة تركية جديدة لواقع العرب، وبالفعل بدأنا نشهد موقفًا تركيًا أكثر حزمًا على نظام الأسد، فتركيا لا تشعر بتهديد أمني فحسب جراء ما يحدث في سورية، إنما تهديد اقتصادي نظرًا لحجم الاستثمارات التركية في سورية.
باختصار؛ شكل الربيع العربي فرصة كبيرة لإعادة اصطفافات في المنطقة أبرزها التنسيق التركي مع كل من الرياض وواشنطن، وهناك من يتحدث عن حتمية أن ينضم الأردن إلى التنسيق مع الأتراك كون الأردن بلدًا يتأثر بما يمكن أن تفضي إليه الأزمة السورية الراهنة، فتركيا تحت قيادة أردوغان تغادر مربع المبادئ التي طالما تشدقت به لمبررات المصالح، ومن ثم ما الذي يمنع الدول الأخرى من اتباع المنهج نفسه.
وعود على بدء، نقول إن السياسة الأمريكية تجاه تغيير النظام في سورية مختلفة كثيرًا عن سياستها الأحادية التي اتبعتها عندما غيرت النظام في العراق، فالتنسيق هو العنوان الأهم والطابع الأبرز الذي يميز سياسة الولايات المتحدة، فليس من مصلحة واشنطن أن تعم الفوضى في سورية بعد الأسد، أو أن تتطور الأمور لحرب أهلية لا تحمد عقباها، لهذا السبب نجد واشنطن معنية أكثر من غيرها بضرورة أن يكون الانتقال لمرحلة ما بعد الأسد سلميًا بحيث تتمكن من إدارة التغيير. ولتحقيق ذلك، تلجأ الولايات المتحدة لفتح قنوات الحوار مع القوى السورية المعارضة بهدف تشجيعها على توحيد رؤيتها حتى تبرز قيادات تمنع سورية من دخول مرحلة عدم التيقن كما هو الحال في مصر؛ لأن الثورة المصرية كانت من دون قيادات حقيقية، ولا يمكن لأمريكا أو غيرها ضمان الاستقرار في مرحلة ما بعد الأسد إلا إذا عملت على وأد التنافر الطائفي من خلال إيجاد الإطار اللازم للانتقال وبالتفاوض والتفاهم مع مختلف القوى السياسية في سورية.