الثورات العربية .. سقوط القذافي دفعة جديدة للتغيير
لعل الحالة الليبية تطرح تحدياً أمنياً خطيراً حيث تنتشر الأسلحة الخفيفة في أيدي الثوار والمتطوعين الذين لا يخضعون لأي إطار مؤسسي وتنظيمي، وعليه تصبح عملية السيطرة على هؤلاء في مرحلة ما بعد القذافي أمراً بالغ الصعوبة. وإذا أخذنا في الاعتبار الانقسامات الإقليمية والفكرية داخل صفوف الثوار لتبين لنا مدى صعوبة إدارة الاختلاف والتعدد لدى النخبة الحاكمة في ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي.
يمكن القول إنه بعد سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي يكون الربيع العربي قد اكتسب دفعا جديدا في طريق التحرر الثاني، ليس هذه المرة من الاستعمار، لكن من ظلم واستبداد أنظمة الحكم الوطنية. لقد انطلقت شرارة الدفع الثوري الأولى في 17 كانون أول (ديسمبر) 2010 عندما أشعل الشاب التونسي محمد بوعزيزي النار في نفسه احتجاجاً على ممارسات النظام الحاكم في بلده. عندئذ تحركت الجماهير التونسية لتعبر عن إرادتها الحرة في التغيير والتحرر مستلهمة مقولة ''الشابي'' الخالدة: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.
وليس بخاف أن عبقرية الشعب التونسي هي التي وضعت عنوانا لمرحلة جديدة فارقة في التاريخ العربي عندما خرجت الجماهير الحاشدة في مختلف أنحاء تونس الخضراء مرددة ''الشعب يريد تغيير النظام'' وهو ما أجبر الرئيس زين العابدين بن علي على الفرار والهرب خارج البلاد. وسرعان ما انتقلت هذه العدوى الثورية التونسية إلى عدد من الدول العربية، الأمر الذي تم التعبير عنه في الإعلام الدولي اصطلاحاً باسم ''الربيع العربي''.
واللافت للانتباه أن التفسير الأوفر حظاً لهذا المد الثوري العربي الذي أخذ بعض أنظمة الاستبداد على حين غرة هو أن الربيع العربي الراهن يمثل انتفاضة سياسية من قبل الجماهير المطالبة بالإصلاح والتحول الديمقراطي، وأنه من خلال الدعم الغربي والدولي لهذه الثورات الشعبية ستتمكن الشعوب العربية في نهاية المطاف من فرض إرادتها في التغيير والإصلاح.
نهاية الزمن العربي الرديء
لقد مثل العرب دوماً ''استثناءً'' فريدا في موجات التحول الديمقراطي. وانشغل عدد لا بأس به من الكتاب والمحللين في تفسير حالة العجز الديمقراطي العربي ولماذا مثلت المنطقة العربية نموذجاً فريداً لإثبات قدرة نظم الحكم الأوتقراطية المستبدة على التكيف والاستمرار رغم تغير الظروف الدولية والإقليمية ورغم سيادة مفاهيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
ولعل النتيجة الأبرز لموجات الربيع العربي الراهنة تتمثل في القضاء على تلك الصورة الذهنية السالبة لما أطلق عليه اسم الزمن العربي الرديء، فالأوضاع العربية تغيرت تماماً ولن تكون كسابق عهدها أبداً. وربما يعزى ذلك إلى أن الثورات العربية ليست من أجل تغيير أشخاص أو استبدال رئيس برئيس آخر وكفى. إنها حركة احتجاج دائم في مواجهة الظلم وعدم المساواة على الصعيدين الداخلي والدولي.
وتطرح الحالة المصرية نموذجا واضحاً على هذا التغيير الجوهري في بنية الأنظمة المجتمعية العربية. إذ تمكنت حركات الاحتجاج الجماهيرية المستمرة من فرض إرادتها في التغيير من خلال ممارسة كل أنواع الضغط الشعبي السلمي على السلطة الانتقالية الحاكمة في مصر. ففي أعقاب قيام القوات الإسرائيلية بإطلاق النار داخل الأراضي المصرية في سيناء يوم 19/8/2011 أثناء تعقبها المسلحين الذين هاجموا منطقة إيلات على البحر الأحمر، ما ترتب عليه مقتل وإصابة عدد من جنود الأمن المصريين، ثارت ثائرة المصريين الذين طالبوا بالقصاص، بل طالب بعضهم بإلغاء اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية. ولأول مرة يتمكن أحد المتظاهرين من إنزال العلم الإسرائيلي من فوق مبنى السفارة الإسرائيلية في القاهرة، الذي ظل يرفرف فوق نيل مصر العظيم في تحد سافر لعقود طويلة.
وأحسب أن ما يدعم هذا التوجه الشعبي العربي المطالب بالتغيير نحو الديمقراطية والحكم الصالح هو ظهور جيل الشباب المسيس، الذي تعامل مع أدوات عصر التكنولوجيا وثورة المعلومات ليعبر عن آرائه وتطلعاته بعيداً عن احتكار ورقابة أنظمة الحكم لوسائل الإعلام التقليدية المرتبطة بشكل أو بآخر بالنظام الحاكم، الأمر الذي أعطى دماء جديدة للعمل السياسي في الدول العربية. ولا يخفى أن دور شباب ''حركة كفاية'' و''حركة 6 أبريل'' في مصر قد أسس لرفع وإزاحة حاجز الخوف من قلوب المصريين، وأسهم كذلك في الإطاحة بنظام حسني مبارك.
تحديات ومخاطر
من أبرز سمات الثورات العربية أنها غير مؤدلجة ولا تعبر عن نسيج أيديولوجي واحد، نظراَ لغياب القيادة الكارزمية التي كان يمكن لها أن تقود هذه الثورات. وربما يشكل ذلك أحد ملامح عبقرية الربيع العربي. فقد خرجت الجماهير بشكل تلقائي وعفوي في معظم الأحيان لتعبر عن رغبتها في استنشاق نسائم الحرية والانعتاق من ربقة نظم التسلط والاستبداد.
ومكمن الخطر هنا في إمكانية اختطاف تلك الثورات وتحويل وجهتها لتحقيق مكاسب ومصالح لقوى سياسية بعينها. وفي هذا السياق يبرز التخوف من بعض التيارات الإسلامية الراديكالية التي تتبنى رؤى سياسية غير تقليدية ولا تحظى بالاتفاق العام. بل الأكثر من ذلك أنها قد لا تؤمن بمنظومة الفكر الديمقراطي نفسه. وأحسب أن حالة الجماعات السلفية في مصر تجسد هذا الهاجس الذي يصيب القوى السياسية الليبرالية بالفزع الشديد.
وتطرح الحالة الليبية نموذجاً مختلفاً عن الحالتين المصرية والتونسية، فالحرب الأهلية الدامية التي تبعت انتفاضة الشباب الليبي، أفضت إلى تدويل المسألة الليبية. وعليه فإن التحدي الأكبر الذي يواجه المجلس الوطني الانتقالي في مرحلة ما بعد القذافي يتمثل في بناء رؤية واحدة لإدارة المرحلة الانتقالية. بيد أن ثمة شكوكا ومخاوف من حدوث انقسامات بين الثوار. وعلى سبيل المثال فإن معظم الذين شاركوا في معركة تحرير طرابلس هم من المنطقة الغربية. فهل يقبل هؤلاء إدارة أعضاء المجلس الانتقالي الذي تأسس في بنغازي؟ إن حادثة اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس تعكس في جوهرها مدى الانقسام الفكري والأيديولوجي داخل صفوف الثوار الليبيين.
ومما يلفت الانتباه حقاً أن التصريحات المبكرة لمصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي بعد دخول قواته طرابلس، حتى قبل السيطرة على معقل القذافي في باب العزيزية، أظهرت تخوفه من وجود بعض التيارات الإسلامية المتطرفة داخل المجلس الذي يترأسه لدرجة أنه هدد بالاستقالة في حالة إصرار هذه التيارات على فرض رؤيتها في إدارة مرحلة ما بعد القذافي.
ويطرح بعض الكتاب تخوفاً آخر يهدد مسيرة الثورات العربية وهو سيناريو إعادة إنتاج نظم الاستبداد مرة أخرى. إذ يمكن التضحية برأس النظام وبعض رموزه في حين يمكن إعادة إحياء النظام بشكل جديد، وإن حافظ على نفسه المنهج والآليات.
وإذا أخذنا الحالتين المصرية والتونسية على سبيل المثال لوجدنا أنه بعد مرور نحو سنة أشهر على سقوط كل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك فإن أركان النظامين التونسي والمصري باقية لم تتزعزع، وربما يفسر لنا ذلك مطالب المحتجين في البلدين بضرورة تطهير مؤسسات الحكم والدولة من بقايا النظام البائد.
وعلى أية حال يشكل سيناريو الفوضى والانفلات الأمني أحد التحديات الكبرى التي تواجه الدول العربية التي شهدت تحولات ثورية فارقة. والناظر إلى أوضاع مصر المحروسة بعد رحيل مبارك يلاحظ غياباً أمنياً ملحوظاً وتزايداً لظواهر ''البلطجة'' وانعدام تطبيق القانون، وهو ما يدفع بالمواطن العادي إلى الترحم على أيام النظام القديم. وربما يكون ذلك الانفلات الأمني متعمداً ومقصوداً من بعض القوى الرجعية والمناهضة للثورة بغية توظيفه سياسياً للعودة إلى السلطة مرة أخرى.
ولعل الحالة الليبية تطرح تحدياً أمنياً خطيراً حيث تنتشر الأسلحة الخفيفة في أيدي الثوار والمتطوعين الذين لا يخضعون لأي إطار مؤسسي وتنظيمي، وعليه تصبح عملية السيطرة على هؤلاء في مرحلة ما بعد القذافي أمراً بالغ الصعوبة. وإذا أخذنا في الاعتبار الانقسامات الإقليمية والفكرية داخل صفوف الثوار لتبين لنا مدى صعوبة إدارة الاختلاف والتعدد لدى النخبة الحاكمة في ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي.
فرص وإمكانات
بيد أنه يبرز في خضم تلك المخاطر والتحديات سيناريو التحول المنظم صوب نظام ديمقراطي جديد على المدى البعيد. وعليه فإن الحديث هنا يكون على مستوى تغيير النظام السياسي بأكمله وليس مجرد تغيير أشخاص النخبة الحاكمة. وتطرح تجارب دول مثل تركيا وماليزيا نماذج يمكن أن تحتذى بالنسبة للخبرة العربية الراهنة.
ويقتضي المضي قدماً لتحقيق هذا السيناريو الديمقراطي ضرورة التخلي عن حالة الاستقطاب السياسي والفكري السائدة في الفكر السياسي العربي بين دعاة الدولة المدنية بمفهومها الليبرالي الغربي ودعاة الدولة الوطنية ذات المرجعية الإسلامية. فقد بنى أساس ذلك الجدل قبل موجة الربيع العربي من خلال الزعم أن تحقيق الاستقرار السياسي في ظل نظم أوتقراطية أفضل من إقامة نظام ديمقراطي غير مستقر أو تأسيس دولة إسلامية بالمفهوم الثيوقراطي الديني.
إن الدولة في التراث الإسلامي تأبى إلا أن تكون غير دينية، فلا يوجد في التقاليد الإسلامية ما يسمى طبقة رجال الدين ''الأكليروس'' أو الحاكم الذي يظن أنه ظل الله في أرضه. فالحاكم مسؤول ويحاسب من قبل شعبه ورعيته. وعليه فإن مفاهيم المساءلة والشفافية لا تتعارض إطلاقاً مع القول بضرورة إعادة بناء الدولة العربية الوطنية بما يحافظ على هويتها الإسلامية ويدعم قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولعل ما يدعو إلى الأمل والتفاؤل في آن واحد هو أن القوى الثورية الجديدة في الدول العربية باتت على وعي تام بضرورة الدفاع عن مكتسباتها وتطلعاتها المشروعة. إن عقارب الساعة العربية لن تعود أبداً إلى الوراء مرة أخرى حيث إن المارد العربي نهض من سباته وأفاق من غفوته الطويلة.