البديل العربي والإسلامي لكبح شبح حرب أهلية قادمة
يبدو أن الصورة العامة التي تم الترويج لها إعلاميًا بأن اتفاق السلام الشامل الذي أبرم بين شمال السودان وجنوبه عام 2005 قد أنهى الحرب الأهلية في بلاد السودان بغير رجعة تعبر في جوهرها عن أمنيات مثالية بعيدة عن أرض الواقع. إذ لم يفضِ انفصال جنوب السودان الذي تم الإعلان عنه رسميًا في 9 تموز (يوليو) 2011 إلى تعزيز دعائم الأمن والاستقرار الإقليمي في المنطقة، وعوضًا عن ذلك فقد أضحت لغة الحرب ومفردات الصراع هي المهيمنة على طبيعة الخطاب السياسي في المناطق المضطربة من شمال السودان.
وإذا ترك المرء جانبًا حالة حرب الاستنزاف المستمرة في إقليم دارفور ـــ بغض الطرف عن الجهود القطرية للتوصل إلى حل تفاوض سلمي على غرار اتفاق السلام الشامل مع جنوب السودان ـــ فإننا نجد الاحتكام للغة السلاح هي الأصل في التعامل مع قضايا الصراع في المجتمعات الحدودية بين شمال السودان وجنوبه. ففي 20 أيار (مايو) 2011 تمكنت القوات المسلحة السودانية من السيطرة الكاملة على منطقة آبيي المتنازع عليها. وفي 5 حزيران (يونيو) استهدف الجيش السوداني مواقع المعارضة المسلحة في جنوب كردفان ولا سيما منطقة جبال النوبة. ومنذ مطلع أيلول (سبتمبر) 2011 تقوم حكومة الخرطوم بحملة عسكرية واسعة في ولاية النيل الأزرق أدت بحسب تقديرات الأمم المتحدة إلى نزوح أكثر من 20 ألف شخص إلى دولة إثيوبيا المجاورة.
دلالات أحداث النيل الأزرق
يمكن النظر إلى تمرد مالك عقار الوالي المنتخب لولاية النيل الأزرق في شمال السودان بوصفه نقطة تحول كبرى تؤثر سلبًا في مسيرة تحقيق المصالحة السودانية في الشمال. فقد لجأت حكومة الرئيس عمر البشير إلى التصعيد وتبني الحلول الأمنية لمواجهة هذا التمرد المسلح. وقد اتضح ذلك من خلال مؤشرات ثلاثة على النحو التالي:
أولاً: قيام الرئيس عمر البشير بإعلان الطوارئ في ولاية النيل الأزرق وعزل الحاكم المنتخب الذي يرأس الحركة الشعبية لتحرير السودان ـــ فرع الشمال في الولاية، وقد تم تعيين الجنرال يحيى محمد خير قائد حامية الجيش السوداني في مدينة الدمازين عاصمة الولاية حاكمًا عسكريًا جديدًا.
ثانيًا: الإعلان عن حظر حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان ـــ فرع الشمال بوصفه مخالفًا لقانون الأحزاب السياسية السودانية. يعني ذلك أنه لن يتم الاعتراف بممثلي الحركة في شمال السودان بوصفهم جزءًا من المعارضة الرسمية السودانية.
ثالثًا: فرض الحسم العسكري من خلال استخدام الضربات الجوية والعسكرية لمواقع المتمردين من أنصار الوالي المخلوع مالك عقار، وهو الأمر الذي أدى إلى تدمير هائل للبنية التحتية المدنية في ولاية النيل الأزرق.
وأحسب أن القراءة الواعية لأحداث النيل الأزرق في شمال السودان تظهر وجود دلالات واضحة قد تؤثر في مستقبل السودان الشمالي كدولة موحدة ومستقرة. فمن ناحية أولى نجد أن الوجود السياسي والعسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان قد ازداد بشكل كبير في كل من جنوب كردفان والنيل الأزرق. إذ احتفظ قادة الحركة بأسلحتهم ومعداتهم، كما أن مقاتليهم لم يذهبوا إلى جوبا بوصفهم ينتمون إلى شمال السودان. وقد ازداد النفوذ السياسي للحركة كذلك بحكم وجودها القوي في المجتمعات الحدودية التي احتفظت بعلاقات وثيقة مع متمردي جنوب السودان طوال سنوات الحرب الأهلية.
ويبدو من جهة ثانية، أن حكومة جنوب السودان قد استغلت نفوذها السياسي والعسكري في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق للضغط على حكومة الخرطوم في ملف منطقة أبيي المتنازع عليها. ولعل ما يؤكد ذلك هو وجود روابط قوية بين قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان ـــ فرع الشمال أمثال ياسر عرفان وعبد العزيز الحلو ومالك عقار وبين حكومة جوبا في جنوب السودان.
ولعل الدلالة الثالثة لتطورات الصراع في ولاية النيل الأزرق ترتبط بفشل الحلول التفاوضية في مناطق الحدود المضطربة لشمال السودان. فقد كان والي النيل الأزرق المعزول مالك عقار وسيطًا للتفاوض بين حكومة الخرطوم وزعيم المعارضة المتمرد عبد العزيز الحلو في ولاية جنوب كردفان. أما وقد أصبح كلا الرجلين مطاردين من قبل قوات الأمن السودانية، فإن التسوية السلمية للصراع في المنطقة قد تم إرجاؤها حتى حين.
أما الدلالة الرابعة فهي ترتبط بمدى تشابه الأوضاع في المناطق الثلاثة التي أفردت لها اتفاقية السلام الشامل عام 2005 وضعية خاصة. فإذا كانت أبيي قد حصلت على حق تقرير المصير واختيار الانضمام للشمال أو الجنوب من خلال استفتاء شعبي عام، فإن كلاً من جنوب كردفان والنيل الأزرق حصلتا على حق المشورة الشعبية لتحديد طبيعة العلاقة مع حكومة الخرطوم. ولا شك أن أبرز مصادر التوتر في هاتين المنطقتين هو عدم إجراء المشورة الشعبية بشكل جدي حتى الآن.
الحرب المقبلة في الشمال
خلال الفترة الماضية ساد اعتقاد جازم في أدبيات الفكر الاستراتيجي أن الحكومة السودانية لا تقوى على تحمل تبعات الانجرار لحرب أخرى مع جنوب السودان؛ إذ إن مثل هذه الحرب ـــ إن وقعت ـــ ستكون باهظة التكاليف. فالحكومة السودانية تعاني معدلات عالية من التضخم، وانخفاضًا كبيرًا في عوائدها النفطية بعد انفصال الجنوب، إضافة إلى زيادة عبء الدين الخارجي الذي يصل إلى نحو 38 مليار دولار. ومع ذلك؛ فإن مخاوف النخبة الحاكمة في الشمال تكمن في إمكانية تنامي النفوذ السياسي والعسكري لقوات المعارضة في المناطق الحدودية مع جنوب السودان، فلا يخفى أن انفصال جنوب السودان قد أدى إلى بروز جماعات سياسية تناهض التهميش والتمييز ضدها في الشمال. وإذا ما توحدت جهود هذه القوى المتمردة التي تمتد من شرق تشاد حتى إثيوبيا لتتجه شمالاً؛ حيث مناطق البجة قرب الحدود مع إرتريا فإن مثل هذا التحالف العسكري قد يؤدي في نهاية المطاف إلى إسقاط نظام الحكم في الخرطوم.
ويبدو أن انفصال جنوب السودان وتبنيه وثيقة دستورية مؤقتة تعلي من قيم التعددية الثقافية والتنوع العرقي والقبلي قد مثل نموذجًا يحتذى للمجتمعات المهمشة والمهملة في شمال السودان مثلما هو الحال بالنسبة لقاطني جبال النوبة في جنوب كردفان وقبائل شرق السودان. فقد بات هؤلاء يحلمون ببناء سودان جديد في الشمال يقوم على أسس من التعددية السياسية والثقافية، ويؤمن بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولعل جاذبية هذه الدعوة تكتسب مصداقية كبرى على خلفية نجاح مشروع السودان الجديد، وإن انحصر نطاقه الجغرافي في جنوب السودان.
وعلى أي حال؛ فقد أظهرت تقارير الأمم المتحدة خلال الأشهر القليلة الماضية وجود تحركات ونشر لقوات عسكرية على نطاق واسع في المناطق الحدودية الواقعة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. وإذا ما أخذنا في الحسبان سهولة الحصول على السلاح وانتشار الأسلحة الخفيفة وحتى الثقيلة لدى مقاتلي القبائل والجماعات المسلحة في هذه المناطق، فضلاً عن اتصالها بمناطق التوتر في دول الجوار الإقليمي مثل الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا، فإن مخاطر الانزلاق لحرب أهلية أخرى في شمال السودان تصبح أكثر قابلية للتحقق إذا ما توافرت الظروف الإقليمية والدولية الداعمة.
التدويل وإمكانية التفكيك
من المعلوم أن المجتمع الدولي أصبح طرفًا فاعلاً في المسألة السودانية على كافة مستوياتها ومكوناتها الأساسية. فمن جهة أولى نجد أن سيف العدالة الدولية مسلط على رقبة الرئيس عمر البشير في غدوه ورواحه منذ صدور مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحقه في آذار (مارس) عام 2009. وعلى الصعيد الميداني في إقليم دارفور توجه قوة هجين من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، كما تعددت الأطراف الدولية الفاعلة في العملية التفاوضية الخاصة بإقليم دارفور.
وعلى صعيد القضايا العالقة بين دولتي السودان، كان الدور الإثيوبي بارزًا في الوصول إلى تفاهمات مشتركة بين حكومتي الخرطوم وجوبا، ولعل من أبرزها الاتفاق على انسحاب قوات الطرفين العسكرية من منطقة أبيي الحدودية ونشر قوات إثيوبية لحفظ السلام فيها. وإذا كانت عمليات التصعيد الأخيرة في النيل الأزرق قد أدت إلى نزوح آلاف الأشخاص إلى إثيوبيا، فإن ذلك يكون مدعاة إلى رفع دعاوى التدخل الإنساني من جانب كثير من المنظمات الحقوقية والجمعيات الخيرية الدولية، الأمر الذي يؤدي إلى تسييس الأزمة الإنسانية التي تشهدها المجتمعات الحدودية في شمال السودان.
ولعل كل المؤشرات السابقة تظهر بجلاء أن هناك أيادي خارجية سواء كانت إقليمية أو دولية تعبث بأمن السودان وتحاول إعادة صياغة المنطقة من الناحية الجيواستراتيجية بما يخدم مصالح أطراف دولية بعينها. ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى مخطط تفتيت السودان بما يؤدي إلى عزل النفوذ العربي الإسلامي في الشمال بعد فصل مناطق الشرق ودارفور والوسط من خلال خلق كيانات مستقلة لكل منها.
ولا شك أن التداعيات الاستراتيجية لمثل هذا السيناريو تبدو مخيفة وبالغة القتامة بالنسبة لمستقبل الأمن والاستقرار الإقليمي في منطقة شمال وشرق إفريقيا. ولعل الملمح البارز في هذه الحالة هو صعود القوى الإقليمية غير العربية مثل إثيوبيا وإسرائيل، في الوقت ذاته الذي يتم فيه احتواء الدور المصري والسوداني في دول الجوار الإقليمي.
ما العمل إذن في ظل غياب الوعي الاستراتيجي العربي لمآلات الوضع في السودان؟ باعتقادي أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق القيادة السودانية التي يمكن أن تقود البلاد في المرحلة الانتقالية بعد انفصال الجنوب إلى بناء حالة ديمقراطية حقيقية تحافظ على سمات التعدد والتنوع، وتسهم في تأسيس هوية سودانية جديدة. ويمكن الاستفادة من رياح التغيير التي ارتبطت بربيع الثورات العربية لتعزيز قوة الشعب السوداني والتأكيد على إرادته في الاختيار. ومن جانب آخر، توجد مسؤولية عربية وإسلامية مشتركة لدعم السودان في مواجهة مخططات التقسيم والتجزئة المفروضة عليه. فهل يمكن الحديث عن بديل عربي وإسلامي لإنقاذ السودان ومنع حدوث حرب أهلية أخرى؟ هذا هو التحدي!