مصر الثورة وإثيوبيا.. جدلية الصدام والتعاون
أذكر أنه حينما سئل أحد الساسة الإثيوبيين ذات مرة عن أهم صادرات بلاده أجاب قائلاً: الماء.. الماء.. الماء. يعكس ذلك إيمانًا قويًا بأن إثيوبيا هي بحق نافورة مياه إفريقيا، حيث تسهم مرتفعاتها بنحو 80 في المائة من مياه نهر النيل. ونظرًا لاعتماد مصر الكلي على حصتها من مياه النيل في تلبية احتياجاتها الزراعية والصناعية والتنموية؛ فإن قضية المياه أضحت ـــ ومنذ القِدم ـــ إحدى ركائز سياستها الخارجية الأساسية. يعني ذلك أن نهر النيل شَكَّل على الدوام الرباط المقدس الذي جمع بين المصريين والأحباش حتى في لحظات الفُرْقَة والقطيعة.
واتسم الإدراك المصري العام تجاه إثيوبيا بمزيج من القلق والشك، فالدولة الإثيوبية تستطيع أن تستخدم قوتها المائية في زعزعة أمن مصر واقتصادها، ففي العصور القديمة كان هناك حديث عن إمكانية تسميم مياه النهر في مناطق أعالي النيل الإثيوبية، بل الأكثر من ذلك أن حكام مصر بعد الفتح الإسلامي كانوا يستخدمون ارتباط الحبشة بالكنيسة القبطية المصرية وسيلة للضغط على ملوك الحبشة لكيلا يقوموا بتحويل مجرى مياه النيل. ولا شك أن هذه التهديدات الإثيوبية لم تكن حقيقية أو عملية، إنما عكست غياب الثقة التي كانت ملمحًا عامًا لفترات طويلة من مسيرة العلاقات المصرية ـــ الإثيوبية على مر العصور.
فما المتوقع والمأمول من زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زناوي للقاهرة يومي 17 و18 أيلول (سبتمبر) 2011؟ هل يمكن الحديث عن طي صفحة الماضي في العلاقات بين البلدين كما أعلن هو على الملأ؟ أم أن رواسب الماضي السلبية وتعقيدات الحاضر المقلقة ستجعل من الصدام بين البلدين القاعدة التي تثبتها فترات التعاون المتقطعة؟!
التحديات الأربعة
أحسب أن عودة الروح للعلاقات المصرية ـــ الإثيوبية بما يعني التوكيد على الشراكة المتكافئة والمصالح المتبادلة بين البلدين تواجه تحديات أربعة كبرى ينبغي التغلب عليها من أجل فتح صفحة جديدة وطَيّ صفحات قديمة سطرت ضياع العديد من الفرص التي كان من شأنها دعم وتعزيز أواصر التعاون بين الشعبين المصري والإثيوبي.
يتمثل التحدي الأول في ضرورة تحطيم الصور الذهنية الزائفة والقوالب الجامدة غير الصحيحة السائدة في الإدراك العام المصري والإثيوبي. ويكتسب هذا المدخل الثقافي والحضاري أهمية كبرى في تأسيس علاقات جديدة تحظى بدعم وتأييد شعبي، فالصورة السائدة في مصر عن إثيوبيا محملة بالكثير من المعاني التاريخية والدينية، حيث تُظهر ملوك الحبشة وحكامها على مر العصور وهم يعملون من أجل تقويض أمن مصر واستقرارها، وذلك من خلال استخدام التهديد بقطع مياه النيل. وفي المقابل؛ نظر إلى مصر بوصفها دولة مهيمنة تسعى إلى سرقة المياه الإثيوبية دون مقابل. وكثيرًا ما استخدمت المعاني الدينية والثقافية مثل العروبة والإفريقانية في رسم هذه الصور الذهنية المتبادلة.
ويمكن من خلال دعم العلاقات الثقافية وتبادل الوفود الشعبية وإعطاء أولوية كبرى لمؤسسات المجتمع المدني في البلدين التغلب على هذا التحدي الخطير، إضافة إلى ضرورة تصحيح تلك الصورة النمطية السائدة في البلدين.
أما التحدي الثاني فهو يشير إلى ضرورة التخلي عن مجموعة المبادئ والأطر السياسية التي أثبتت فشلها على مدى العقود الستة الماضية. لقد بات واضحًا أن الرؤية المصرية الخاصة بتسوية أزمة مياه النيل لم تفضِ إلى شيء، وعوضًا عن ذلك فإنها أدت إلى تمرد دول المنابع بزعامة إثيوبيا من خلال التوقيع على اتفاقية مائية جديدة دون موافقة كل من مصر والسودان. وفي المقابل؛ أدركت إثيوبيا ودول المنابع الأخرى أن وجود مصر مسألة ضرورية لإنجاح جهود التعاون الإقليمي للاستفادة من مياه نهر النيل.
ويشير التحدي الثالث إلى إشكالية هيمنة المنظور المائي على العلاقات المصرية ـــ الإثيوبية، إذ يمكن تبني رؤية شمولية جديدة للعلاقات بين البلدين تستهدف مختلف جوانب التعاون في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو الأمر الذي يخفف من غلواء التركيز على بعد مياه النيل وحدها. ولعل ذلك من شأنه أيضًا دعم أجواء الثقة والتعاون بين المصريين والإثيوبيين. أليست التحولات الإقليمية والدولية التي تشهدها منطقة شرق وشمال إفريقيا تمثل دافعًا وحافزًا للتعاون الأمني والاستراتيجي بين كل من مصر وإثيوبيا؟!
أما التحدي الرابع فإنه يعني ضرورة البحث عن أدوات وآليات جديدة للتعامل مع مقتضيات التحولات الكبرى التي تشهدها منظومة العلاقات المصرية ـــ الإثيوبية. وعلى سبيل المثال؛ لا يمكن استخدام مناهج التعامل الدبلوماسي والبيروقراطي والتقني نفسها لإدارة المرحلة الجديدة. ولعل ذلك يقتضي ضرورة إعادة تأهيل وتدريب الكوادر اللازمة والبحث عن موارد إضافية لدعم مسيرة التعاون الشامل بين البلدين.
مصر الثورة والبحث
عن رؤية جديدة
من المعلوم أن الثورة المصرية أحدثت تحولاً كبيرًا في توجهات مصر الخارجية، وفي تغيير صورة مصر السائدة تحديدًا في البلدان الإفريقية وعلى رأسها دول حوض النيل. وظهر ذلك جليًا في إعادة هيكلة وزارة الخارجية المصرية ليصبح هناك مساعدان لوزير الخارجية أحدهما للشؤون الإفريقية والآخر لشؤون السودان، إضافة إلى ذلك فقد ظهر حراك شعبي ورسمي واضح تجاه إفريقيا. فقد زار رئيس الوزراء المصري عصام شرف كلاً من السودان وإثيوبيا، وسبقته وفود شعبية لهاتين الدولتين، إضافة إلى أوغندا، وهو الأمر الذي يبشر ببزوغ عهد جديد للتوجه المصري تجاه إفريقيا.
ومع ذلك فقد اتسمت حركة مصر الثورة تجاه دول حوض النيل بغياب الرؤية والتناقض. وربما يرجع ذلك إلى أن الثورة لم تستطع بَعْدُ أن تهدم أركان النظام القديم وتتخلص من سياساته البالية، ويمكن الإشارة إلى بعض الأمثلة التي توضح هذا التناقض في الحركة المصرية تجاه أزمة مياه النيل؛ إذ إنه بعد قيام بوروندي بالتوقيع على اتفاق التعاون الإطاري لدول حوض النيل في 28 شباط (فبراير) 2011 قامت السفيرة منى عمر مساعدة وزير الخارجية المصري للشؤون الإفريقية بزيارة كينشاسا في الفترة من 4 إلى 6 نيسان (أبريل) 2011 للتوكيد على منع الكونغو الديمقراطية من التوقيع على الاتفاقية كما فعلت بوروندي.
واللافت للانتباه أن الكونغو الديمقراطية حصلت على مساعدات مصرية طبية وتدريبية، إضافة إلى عدد من الجرارات الزراعية مقابل التزامها بعدم التوقيع على الاتفاقية. وربما يطرح ذلك بعض الشكوك التي أشارت إلى أن نظام مبارك البائد حاول شراء الموقف البوروندي لمصلحته، وهو ما يفسر تخلي حكومة بوروندي عن هذا الالتزام بعد أيام من سقوط نظام حكم مبارك.
ولعل التناقض في الحركة المصرية الجديدة تجاه إفريقيا يصل إلى حد أن تبدي مسؤولية الملف الإفريقي في الخارجية المصرية استعداد مصر للمشاركة في بناء سد الألفية العظيم المثير للجدل في إثيوبيا إذا ثبت أنه لن يؤثر في حصة مصر من مياه النيل.
إن مصر الثورة في حاجة إلى اكتشاف ذاتها الإفريقية بما يعني إعادة صياغة رؤية جديدة تأخذ في الحسبان حقيقة المصالح المصرية في ظل التحولات الإقليمية والدولية الفارقة التي حدثت في عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة وظهور قوى دولية جديدة صاعدة في النظام الدولي.
ما العمل؟ حدود التعاون والصراع
إذا كانت إثيوبيا وغيرها من دول أعالي النهر قد أقرت بحقها في استغلال مواردها المائية، وأنها أَعَدَّتِ العُدَّةَ لتحقيق ذلك فإن أمن مصر المائي أضحى في خطر، وباتت إمكانات تأمينه غير واضحة المعالم. وعلى الرغم من ردود الفعل القوية التي ارتبطت بحقيقة بناء سد الألفية العظيم في إثيوبيا، فإنها اقتصرت على الجانب القولي ولم تتعداه إلى مستوى الفعل. وليس من المحتمل أن تلجأ دول حوض النيل إلى استخدام القوة العسكرية لتسوية أزمتها المائية، وربما يُعْزَى ذلك إلى اعتبارات عدة من أبرزها عدم الرغبة في تقويض دعائم الأمن والاستقرار الإقليمي أو إحداث تحولات في موازين القوى السائدة، إضافة إلى أن مصر الثورة قد أظهرت أنها أكثر ميلاً للتعاون بشكل يفوق ما كان سائدًا في الحقبة الماضية.
وعلى أي حال؛ نستطيع تصور ثلاثة بدائل أمام مصر لتحقيق أمنها المائي في التعامل مع إثيوبيا. وهذه البدائل تمثل سيناريوهات مستقبلية لطبيعة العلاقات الحاكمة بين مصر وإثيوبيا. ويذهب السيناريو الأول إلى دخول مصر في حرب مفتوحة مع إثيوبيا بسبب المياه. ولا شك أن هذا الاحتمال غير وارد وفقًا للمعطيات السائدة في مصر بعد الثورة، إذ إنه يتطلب المزيد من الموارد والإمكانات، ويفقد مصر مكانتها الأخلاقية في المجتمع الدولي بحسبانها دولة معتدية وليست ضحية لسياسات دول أعالي النهر التي تحاول حرمانها من حقها المشروع في مياه النيل.
أما السيناريو الثاني فإنه يشير إلى إمكانية قيام تحالف مصري مع دول النيل الأبيض (التي تضم أوغندا وكلاً من جنوب السودان وشماله). وإذا ما استطاعت الدبلوماسية المصرية تحقيق هذا التحالف الإقليمي، فإنه يشكل حائط صد موازيًا لهيمنة إثيوبيا على النيل الأزرق. ولا شك أن تأثيرات هذا الخيار المصري ستكون سلبية بما يؤدي إلى حالة من الحرب الباردة بين القوتين المصرية والإثيوبية، وهو ما يعني تقويض دعائم الاستقرار والأمن في دول حوض النيل بشكل عام.
ولعل السيناريو الثالث وهو الأكثر احتمالاً وقبولاً فإنه يشير إلى التعاون المصري ـــ الإثيوبي، فالدولة المصرية أكثر تقدمًا من إثيوبيا، وهي تتمتع بتنوع مكونات اقتصادها الوطني. ومن جهة أخرى فإن إثيوبيا لديها إمكانات تخزين مزيد من المياه في النيل الأزرق، وهو ما يعني تعظيم استفادة دول المصب من هذه المياه. ومن شأن التعاون المصري ـــ الإثيوبي توفير الفرصة لمصر من أجل مراقبة السدود الإثيوبية على ضفاف النيل الأزرق. ولا شك أن إعطاء المفاوضات فرصة في العلاقات بين البلدين يسهم في سيادة نمط من الشفافية وتبادل المعلومات بين صانعي القرار في كل من مصر وإثيوبيا.
على أن التحدي الأكبر والاختبار الحقيقي أمام القيادة المصرية يتمثل في الموقف النهائي من اتفاقية التعاون الإطاري الخاصة بمياه النيل، فقد وافقت إثيوبيا على استحياء على تجميدها وعدم التصديق عليها إلى حين تشكيل حكومة مصرية منتخبة. فهل تضحي مصر بحقوقها التاريخية المكتسبة في مياه النيل مقابل تعزيز التعاون الإقليمي بين دول حوض النيل وعلى رأسها إثيوبيا؟ هذا ما يحتاج إلى حدوث توافق عام بصدده من مختلف القوى السياسية والشعبية في مصر بعد الثورة.