ديك تشيني في مذكراته: لم أرتكب خطأ واحدا!
في معرض تعليقه على ما آلت إليه الأمور بعد ثماني سنوات عجاف من حكم الرئيس بوش- وهي فترة كان فيها ديك تشيني نائبا للرئيس ومؤثرا بشكل فاق التصور- يقول أرون ديفيد ميلر (الذي عمل مستشارا لستة وزراء خارجية في الولايات المتحدة آخرهم كولن باول وباحث في معهد ويلسون): إن أمريكا أصبحت قوة أقل احتراما وأقل مكانة ولم يعد خصومها يخشوها كما كانوا.
وما من شك أن التراجع في مكانة الولايات المتحدة قياسا على ما كانت عليه في عقد التسعينيات جاء بسبب الأحادية الأمريكية التي استخفت بالحلفاء قبل الخصوم واندفعت بشكل هدد السلم والاستقرار الدوليين. صحيح أن المحافظين الجدد كان لهم دور كبير في هذا التدهور نتيجة لسياساتهم غير أن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني أسهم في ذلك ومن موقعه كنائب رئيس للتأثير في تفكير الرئيس بوش الذي لم يكن يتمتع بفهم استراتيجي كاف لتكوين فهم مستقل عن تأثير نائبه، خاصة في فترة رئاسته الأولى.
ودأب ساسة أمريكا على كتابة مذكراتهم حال مغادرتهم مناصبهم، ولا تخلو سنة واحدة دون أن يكون هناك عدد من الكتب التي تأخذ شكل مذكرات ينشرها من كان في موقع قيادي يشرح فيه وجهة نظره لتطور الأحداث السياسية في عهده. وهناك بعض المذكرات التي تصلح مرجعا للدارسين كما هو الحال مع الكتب الكثيرة التي كتبها هنري كيسنجر بعد أن ترك منصبة كوزير للخارجية في النصف الثاني من عقد السبعينيات. غير أن الأمر مختلف في حالة ديك تشيني الذي أصدر للتو مذكراته متوعدا بها عددا من ساسة أمريكا، وكأنه يريد أن يفضح أمرهم.
وأي قارئ للكتاب لا يمكنه أن يتجنب استنتاج أن مفردة "التواضع" ليست واردة في قاموس تشيني ولا تشكل جزءا من بنيته الذهنية أو السيكولوجية، فهو لا يعترف ولو بمجرد خطأ واحد ارتكبه خلال السنوات الثماني التي خدم فيها نائبا للرئيس، فكل خطوة قام بها كانت صحيحة، وكل رأي قدمه كان الرأي السديد في حين الآخرون الذي اعترضوا عليه كانوا على خطأ. وفي معرض ترويجه لكتابه، يقول ديك تشيني- نائب الرئيس الأمريكي السابق- إن رؤوسا ستنفجر حال خروج كتابه للأسواق. قمت بشراء نسخة وقرأتها لعلي أجد منظورا جديدا لفهم ما حصل في تلك السنوات، والكتاب الذي حمل عنوان: In My Time: A Personal and Political Memoire جاء أحاديا كما هي سياسة مؤلفه. وعلى الرغم من بعض التفصيلات الجديدة، لم يخرج الكتاب عن السياق الذي نعرفه، والفكرة الرئيسة هي أن كل ما قام به كان صحيحا وأن منتقديه كانوا على خطأ.
وعلى نحو لافت، لم يسلم من نقده القاسي حتى قيادات مثل كولن باول وجون ماكين؛ إذ يروي قصصا عن الأخير فيها جانب كبير من السخرية. فمثلا، عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية في أيلول (سبتمبر) من عام 2008، أعلن جون ماكين تعليق حملته الانتخابية وتوجهه للبيت الأبيض "لإنقاذ" الاقتصاد الأمريكي، ويسخر تشيني من جون ماكين ويظهره بأنه كان يريد فقط أن يظهر وكأنه قيادي قادر على قلب الأمور، لكنه حضر الاجتماع ولم يتحدث إلا آخر واحد؛ لأنه لم يكن لديه أي شيء يقوله، وعلى العكس منه يرى تشيني أن الديمقراطيين كانوا منظمين وكان باراك أوباما يقدم أفكارا على الأقل. فما الذي يريده ماكين؟! هو من طلب الاجتماع كما يقول تشيني، لكن الهم الأول لجون ماكين كان فقط الانتخابات مع أنه أعلن أنه ليس مهتما بالحملة لأن "الوطن" يمر بأزمة.
يناقش في كتابه عددا من القضايا السياسية الكبيرة والرئيسة التي أثارت جدلا كبيرا في الولايات المتحدة وخارجها، من ضمنها الحرب في أفغانستان والحرب في العراق والمحتجزون في معتقل جوانتانامو، ويدافع بشدة وقوة عن الوسائل المحسنة التي استعملت في تعذيب السجناء؛ لأن المعلومات التي انتزعت أسهمت في تعزيز الأمن على حد ادعائه. كما يدافع عن إجراءات ضيقت على الحريات العامة مثل توسيع صلاحيات وكالة الأمن القومي في تجميع المعلومات في داخل الولايات المتحدة. وفي كل قضية من هذه القضايا الرئيسة ينتقد ديك تشيني خصومه ومنتقديه بقوة سواء من كان منهم داخل إدارة الرئيس بوش أو خارجها، وأكثر من ذلك يقول ديك تشيني إنه كان سيكرر الأعمال نفسها وسيقدم النصائح نفسها لو أنه أعطي الفرصة مرة ثانية لعمل أي توصية. وعلى صفحات الكتاب يشعر القارئ بأن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني يتحداهم بوضع معتقداتهم بأنه كان قاسيا في كل القضايا الرئيسة جانبا، وبدلا من ذلك يجادل ومن دون أن يقدم أي اعتذار بأن المحافظة على الأمن القومي الأمريكي تبرر الإجراءات غير العادية التي تبناها وأوصى بها.
اللافت أن الأمريكان أكثر ميلا لإظهار تململ وشكاوى عندما ينتبه القادة الأمريكان بشكل مبالَغ فيه لحظهم السياسي، وعادة ما يكون القادة متأثرين باستطلاعات الرأي العام ويكونون مسكونين بالحملة الانتخابية. لكن لأنه لم يكن لديه نية المنافسة على الرئاسة فإنه لم يكن مقيدا بالانتخابات التي عادة ما تفرض قيودا على القرارات التي يتخذها من يسعون للفوز في الانتخابات. لهذا نجد ديك تشيني يقدم في كتابه لمحات نادرة للنقاشات التي أجراها سياسي كان مستقلا عن القيود المألوفة، والنتيجة أننا أمام شخص لا يرى نفسه مسؤولا إلا أمام ضميره. طبعا كان معروفا للقاصي والداني أن نائب الرئيس تشيني لم يكن ينوي توظيف منصبه كنائب للرئيس للترشح للانتخابات الرئاسية، ووضح ذلك في البداية؛ ما فتح المجال أمام شخصيات أخرى مثل مت رومني وجون ماكين وجولياني للتنافس على بطاقة الحزب الجمهوري لمنافسة باراك أوباما على الانتخابات الرئاسية عام 2008.
يخصص تشيني جزءا كبيرا من مذكراته للاشتباكات العسكرية في العراق، وركز في هذا الجزء على وجه التحديد على الخلافات التي نشبت بين الساسة الأمريكان حول قدرة صدام حسين على تطوير أسلحة دمار شامل، وهنا نجد ديك تشيني يصدر أحكاما على من اختلف معه. وقراءة دقيقة لمواقف تشيني آنذاك يظهر أنه لم يكن ليخفي مواقفه ولم يكن ليخجل من الإشارة إلى من اختلف معهم حيال هذا الأمر وعدم احترامه للولاء أو الأداء الوظيفي لكل من وزير الخارجية الأمريكي كولن باول وكوندليسا رايس ومدير الـ"سي إي إيه" جورج تينت وآخرين. وربما هذا ما قصده ديك تشيني عندما بدأ حملة الترويج لكتابه بالقول: "إن رؤوسا ستنفجر حال نشر الكتاب ووصوله إلى القراء الأمريكان". وهنا نشير إلى ردة فعل كولن باول الذي صرح في عدد من المقابلات التلفزيونية بأن هناك ضربا رخيصا وتحت الحزام وأن ديك تشيني ارتكب أخطاء كثيرة خلال خدمته كنائب للرئيس.
وفي الكتاب تناول ديك تشيني الرئيس بوش نفسه، وعبر عن شعوره نحو الرئيس؛ إذ امتدح الرئيس للقرارات التي اتخذها في السنوات القليلة الأولى التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لكنه لم يخف إحباطه عندما غير الرئيس بوش مساره خلال ولايته الثانية، وهي الفترة التي قام فيها بوش بطرد المحافظين الجدد الذين ورطوه في الكثير من القرارات الكارثية التي استندت إلى رؤى غيبية إلى حد كبير، وهي أيضا الفترة نفسها التي شهدت تراجع تأثير ديك تشيني حتى شعر بالتهميش في كثير من الأحيان.
وهنا يعبر ديك تشيني عن شعوره بخيبة الأمل عندما قام الرئيس بوش بطرد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وهو صديق وحليف له لسنوات طويلة. كما عبر عن إحباطه في الكتاب من الرئيس بوش وتردده في اتخاذ قرارات بخصوص إيران وسورية وكوريا الشمالية، لكن إحباطه الأكبر وعدم رضاه كان عندما قرر الرئيس بوش عدم إصدار عفو عن مستشار ديك تشيني لويس ليبي الذي أدين بخصوص دوره في تسريب والكشف عن هوية عميل الـ"سي آي إيه" فاليري بلام. وهنا يدافع ديك تشيني بشراسة عن مساعده السابق لويس ليبي ويقول إنه لم يكن المصدر المسؤول عن التسريب ويقول إن الرئيس بوش ترك رجلا طيبا جريحا على أرض المعركة، وهذه هي كلمات قوية لتوجيهها للرئيس، لكن أي قراءة بين السطور لمذكراته تظهر استعلاء ديك تشيني لأن الرئيس لم يرتق لمستوى توقعاته.
مواقف ديك تشيني تجاه العرب وقضاياهم معروفة، وكان أن تحالف مع اليمين الإسرائيلي لقتل عملية السلام، فعلى صفحات مذكراته نجده يستخف بالصراع العربي - الإسرائيلي، فنجده - على سبيل المثال - يحاول إقناع أحد زعماء العرب بتأييد أمريكا في حربها في العراق، وعندما طلب منه هذا الزعيم أن تقوم أمريكا بعمل ما للمساهمة في حل الصراع كان رده أن أمريكا تحاول منذ عقود دون فائدة. ويقول إنه كان قد اقترح على الرئيس قصف موقع سوري "نووي"، لم يوافق الرئيس، لكن إسرائيل قامت بالمهمة، طبعا تحالف تشيني مع متطرفيّ الحكومة الإسرائيلية كان معروفا. بمعنى أن ديك تشيني كان بصدد خلط الأوراق في منطقة الشرق الأوسط والعبث بأولويات الإدارة الأمريكية حماية للمشروع الصهيوني التوسعي، فديك تشيني كان تحت تأثير برنارد لويس أحد أهم الخبراء في الشرق الأوسط الذي كان يلتقي مرارا وتكرارا مع تشيني وزمرته. أي قراءة متأنية لكتابه تكشف عن أن هناك تفكيرا أمريكيا مفاده أن الولايات المتحدة تستطيع أن تتحمل استراتيجيًّا استمرار الصراع العربي - الإسرائيلي وأن دور أمريكا سيكون مقتصرا على إدارة النزاع بدلا من ممارسة الضغط اللازم على إسرائيل لتحقيق حل سلمي لصراع مستمر منذ عام 1947.
وعلى نحو لافت، يسلط ديك تشيني الضوء على خلاف تقليدي متعلق بالسياسة البيروقراطية التي كتب عنها جراهام اليسون كتابه المشهور عن أزمة صواريخ كوبا، فالخلاف بين البنتاجون ووزارة الخارجية ليس بجديد، لكن الجديد هو عمق الخلافات. فالصراع الذي دار بين كولن باول ورامسفيلد كان عميقا ويعكس مواقف سياسية مختلفة، على الرغم من أن التحالف بين البنتاجون ومكتب نائب الرئيس رجح الكفة لمصلحة خيارات الحرب في الشرق الأوسط تحت ذرائع نعرف جميعا أنها كانت باطلة وبالفعل ثبت بطلانها بعد ذلك بسنوات قليلة، لكنها خلافات نتجت من خروج كولن باول من منصبه بعد انتخابات عام 2004 مباشرة.
باختصار، لم يثر الكتاب الضجة التي أرادها تشيني وأن الرأس الوحيد الذي يغلي هو رأسه؛ لأنه كان سببا رئيسا في تراجع مكانة أمريكا مع أنه يلقي باللوم بشكل غير مباشر على رئيسه، فالأخير طلب منه منذ اليوم الأول أن يكون شريكا في الحكم، لكن لا يروي تشيني كم مرة تجاوز هذا التفويض كما كان واضحا في فضائح ليبي وغيره، فديك تشيني استغل الضعف المعرفي لرئيسه وانتهج سياسة موازية لتغليب المصالح والأفكار التي قدمت له من قبل المحافظين الجدد، وهي سياسات أدت إلى إنهاك أمريكا واستنزاف قوتها، والأغرب أنه لغاية الآن يمارس النكران self denial أو لنقل التضليل.