العقدة اليمنية وما السبيل لحلها؟
أخيرا عاد الرئيس علي عبد الله صالح إلى صنعاء بعد علاج دام ثلاثة أشهر في الرياض إثر تعرضه لحادث تفجير. عودته أعادت مجددا السؤال الذي ظلّ معلّقا منذ أشهر في اليمن ومحيطها: كيف يمكن حل العقدة اليمنية؟ فما العقدة اليمنية وما السبيل لحلها؟
كان إعلان الوحدة اليمنية في عام 1990 حدثا مهما وبارزا في تاريخ اليمن المعاصر، ولا سيما أن اليمن شهدت منذ استقلال الجنوب وتحرره من الاستعمار البريطاني بنجاح ثورة ردفان عام 1967 نزاعات واحترابات ومؤامرات بين شطريها الشمالي والجنوبي، لكن حلم الوحدة ظل يداعب اليمنيين في الشطرين، على الرغم من اختلاف النظامين الاجتماعيين حتى تحقق لهم ما أرادوا في عام 1994 إلاّ أن تحقق الوحدة لم يكن إنهاء للاحتراب المعلن والمستتر والتشطير والانقسام، خصوصا بين مرجعيتين، فبعد الاقتتال الداخلي عام 1994، عانت اليمن مشكلات داخلية حادة بعضها اتّخذ طابعا مسلحا، ولا سيما في صعدة، وهي عبارة عن حرب تخمد قليلا حتى تنفجر.
وكانت آخر الحروب الست ضد صعدة قد اتسمت بالتداخل الخارجي بعد أن اتّسعت رقعة النزاع إقليميا وامتدّت إلى حدود المملكة، ناهيكم عن اتهامات وردت ضد إيران في محاولتها دعم الحوثيين، وهم زيديون يمثّلون فرقة أقرب إلى الشيعة الإثني عشريين، وأضحت قضية الحوثيين مشكلة إقليمية، بحكم التواصل والتفاعل مع الخارج، ثم اندلعت مسألة الحراك الجنوبي، الذي اتخذ بُعدا شعبيا عشية انتفاضتي تونس ومصر، الأمر الذي حفّز الشارع اليمني على الانتفاضة. وقابلت السلطات الحاكمة الاحتجاجات الطلابية المطلبية بالقمع، الأمر الذي اتّسع تأثيرها بانضمام فئات أخرى إليها منذ كانون الثاني (يناير) عام 2011.
لعل أهم أسباب الحراك الشعبي تعود إلى وصول مسألة المشاركة إلى طريق مسدود ولم تنفع معه جميع المحاولات التي بذلتها أطراف عقلانية في المعارضة والسلطة على حلّ هذه الإشكالية، لكنها لم تنجح في تحقيق أي تقدم يخفف من ثقل المشكلة، فضلا عن تدنّي المستوى المعاشي وارتفاع نسبة البطالة وزيادة حجم الفساد، ولا سيما في المفاصل التي تحيط بالرئيس وعائلته. وكان لانكسار حاجز الخوف وراء نزول مئات الآلاف من الناس طوال أشهر أسبوعيا وأحيانا يوميا، إلى الشوارع والساحات.
وتطوّرت الشعارات المطلبية إلى شعارات سياسية راديكالية تطالب بإسقاط النظام، وهو الشعار الأبرز الذي ارتفع في ساحات التغيير، وسرى مثل النار في الهشيم من صنعاء مرورا بـتعز وصولا إلى عدن وبقية المحافظات، ولعل هذا ما جعل أحزاب اللقاء المشترك، وهي تمثل قوى سياسية إسلامية وناصرية وماركسية وتقليدية كانت قريبة من مؤسسة النظام، التجاوب معه، على الرغم من أنه لم يكن في برامجها شعار الإطاحة بالنظام، بقدر إجراء إصلاحات سياسية وقانونية واجتماعية واقتصادية طويلة الأمد تفضي إلى تغيير طبيعة النظام، بالانتقال تدريجيا من نظام استبدادي إلى مرحلة التحوّل الديمقراطي، ولا سيما عبر التراكم والتغيير المستمر.
وإذا كان خيار الوحدة أساسيا لدى عدن بقدر رومانسيته وصميميته، فقد كان لدى صنعاء واقعيا. عدن ضحّت بتوجهها الاشتراكي ووأدت أول تجربة ماركسية عربية عن طيب خاطر، وعلى الرغم من الكثير من الأخطاء والعيوب التي صاحبتها، خصوصا مرض الطفولة اليساري الذي عانته وشحّ الحريات وفرض الرأي الواحد، إلاّ أنها حققت بعض المنجزات الاجتماعية والاقتصادية، خصوصا في مجال حقوق المرأة، حيث يعتبر قانون الأحوال الشخصية متقدما على دول المنطقة، فضلا عن حقوق الشغيلة وإعلاء شأن الثقافة، إلاّ أن العواصف السياسية كانت تجتاحها بين حين وآخر وتقضي على النخب السياسية والفكرية، ولا سيما الحاكمة وتفتح حمام الدم، الأمر الذي غدا فيه خيار الوحدة هروبا إلى الأمام، في ظل مشكلات عصفت بالنظام الاشتراكي العالمي من جهة، وانقطاع دعمه ومساعداته لليمن من جهة أخرى، ما حملها على الإسراع بطلب الوحدة، وبالأخص بعد إعلان عزم ألمانيا على توحيد شطريها، ولا سيما بانهيار جدار برلين في عام 1989، وهكذا تصورت عدن أن خيارها سيؤمّن خلاصا للأزمة المستفحلة من جهة ثالثة.
وفي حين كان الحراك الشعبي يتعاظم كان نظام الحكم يراهن على مؤسسة الجيش، ولا سيما الحرس الخاص الذي كان ملتفّا حول الرئيس، إضافة إلى قوات عسكرية أخرى، هي عبارة عن تشكيلات لقوات نظامية تابعة مباشرة إلى مؤسسة الرئاسة، ويتم انتقاء عناصرها من الموالين، خصوصا من العائلة والأقرباء والبلدات التي ينتمي إليها قادة الحكم، وهي سمة لم تقتصر على اليمن، بل كان العراق في العهد السابق، وكذلك سورية وليبيا، تمتلك تشكيلات مماثلة، وقيل إن الحرس الجمهوري اليمني كان من تدريبات الحرس الجمهوري العراقي، ولعل هذه التشكيلات ليست بعيدة عن تلك التي تندغم فيها العائلة والعشيرة والقرية أو المدينة والطائفة أحيانا وغيرها، بجهاز الحكم، خصوصا القوات الأمنية والاستخبارية والعسكرية الضاربة مثلما تتماهى السلطة مع المال والإعلام والاستيراد والتصدير والثقافة والرياضة والسياحة، بحيث تهيمن على كل شيء في شكل من أشكال الدولة الغنائمية التي تستحوذ على المجتمع.
ازدادت المشكلة اليمنية احتقانا بعد الأخذ والرد بشأن المبادرة الخليجية في 18 نيسان (أبريل) 2011 التي أعلنت الحكومة الموافقة عليها في 22 نيسان (أبريل) بهدف تأمين عملية انتقال سلس للسلطة، خصوصا بعد تأييد قوى اللقاء المشترك، وكذلك الفعاليات الشعبية للحراك المجتمعي. وكانت المبادرة الخليجية قد تضمّنت بضع قواعد تؤمن الانتقال السلس، لكن تلك المبادرة كانت تنام وتستيقظ في إطار مناورات ومساومات، تارة لكسب الوقت وأخرى للتسويف وثالثة للانتظار، ولا تزال، ولعلها على نحو أكثر إلحاحا بعد عودة الرئيس إلى صنعاء، خصوصا وقد ترافقت عودته مع نبرة أمريكية تطالبه بنقل سلس للسلطة، في حين أن الدعوة إلى ضبط النفس والتوصل إلى حل سلمي هي اللغة السائدة في الخطاب الأمريكي طوال الفترة الماضية.
لقد شهدت اليمن عشية عودة الرئيس وخلال الأيام 19 - 20 أيلول (سبتمبر) 2011 وبُعيد عودته مباشرة يوم 23/9 مجزرة حقيقية راح ضحيتها مئات وعشرات المواطنين في مواجهة بين متظاهرين سلميين وقوى شبحية، ينفي النظام أي ارتباط له بها، وتؤكد المعارضة وقوى الحراك الشعبي أنها قوى نظامية أو شبه نظامية بملابس مدنية، وهي مكلّفة من النظام وبإشرافه لقمع المتظاهرين وإرهابهم، الأمر الذي ينذر بتصاعد موجة العنف بعد أن وصلت الأمور إلى طريق مسدود.
لا يمكن النظر إلى قضية التغيير الديمقراطي في اليمن مثل غيره من البلدان، ولا يمكن استنساخ حلول جاهزة له، فله خصوصيته وتعقيدات وضعه السياسي والقبلي والمذهبي والمناطقي والإقليمي، إضافة إلى حساسياته السياسية، فالمشكلة القبلية، ولا سيما "قبيلة حاشد" التي لها دور كبير، وتحديدا عائلة الأحمر التي ينتمي إليها اللواء علي حسن، الذي كان من أشد المتصدّين للحوثيين في حروب صعدة، انفجرت مثل بركان. أما مشكلة الحوثيين فهي مشكلة مذهبية بحكم دور الجماعة الحوثية الزيدية الأصول، فقد شنت عليها الحكومة ست حروب دون أن تتمكن من القضاء عليها، على الرغم من هدنات واتفاقيات ووساطات قطرية وغيرها.
وهناك مشكلة مناطقية أيضا بحكم تعبيرات مناطق الجنوب والشعور بالتمييز التي تستبطن احتقانات تعود إلى سنوات طويلة، ولا سيما ما حصل في عام 1994، خصوصا هناك من يسعى لإعادة القديم إلى قدمه والمطالبة بانفصال الجنوب مثلما يدعو إلى ذلك الرئيس السابق علي سالم البيض، أما المشكلة العسكرية فهي قائمة أيضا، حتى إنْ ظل الجيش، إلى جانب الرئيس خصوصا التشكيلات الخاصة، لكن انشقاق اللواء علي محسن وانضمامه إلى الحراك الشعبي مع قواته، قد يدفع باتجاه الاقتتال الذي لو تطور - ولا سيما بوجود نحو 68 مليون قطعة سلاح - فقد يدفع بعض الأطراف الدولية للتدخل طلبا لتأمين حماية للسكان المدنيين، سواء بمنع الطيران الرسمي من التحليق No Fly Zone أو بفرض حصار قد يؤدي إلى شلّ يد الحكومة وإضعاف قدرتها تدريجيا، وإذا العامل الدولي لم يقرر اتجاهه بعد، فإن تدهور الوضع الأمني وارتفاع عدد الضحايا، سيضطرّه إلى اتخاذ موقف، لاعتبارات أخلاقية بحكم وزن الرأي العام ودوره من جهة، ومسؤوليات قانونية وسياسية من جهة ثانية.
المشكلة اليمنية مشكلة سياسية بامتياز؛ إذ إن الحركة السياسية القوية نسبيا بما فيها الحزب الحاكم تتصارع منذ عقدين من الزمان، علما بأن المعارضة بجميع تياراتها عنصر فاعل على مستوى الشارع السياسي أيضا، بما فيها حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي يضم تحالفا وامتدادا لجماعة الإخوان المسلمين وبعض رؤساء القبائل والعسكريين، إضافة إلى معارضة الحزب الاشتراكي اليمني والناصريين ومؤسسات المجتمع المدني وشخصيات مستقلة.
ولا يخفى وجود مشكلة كبرى في اليمن اسمها الإرهاب والتطرّف والتعصب، حيث يستغل تنظيم القاعدة وجماعات سلفية وتكفيرية هذه الأجواء للزحف على هذه المدينة أو تلك، التي تعلن عصيانا هنا وتمرّدا هناك، تقتل وتذبح على الطريقة "الإسلامية" أو دونها، فتربك الوضع وتخلط الأوراق، علما بأنه لا جامع يجمع هذه المجموعات بالإسلام وقيمه السمحة. وحاول نظام الحكم في اليمن وفي أكثر من مناسبة تأكيد شراكته والتزامه للتعاطي مع المتطلبات الدولية فيما يسمى محاربة الإرهاب الدولي، ولعله اليوم أكثر استعدادا لقبول أية صيغة تؤمن له البقاء والاستمرار، خصوصا وقد ظل خلال السنوات الماضية يوحي بأن غيابه سيعني ترك البلاد تقع تحت هيمنة تنظيمات القاعدة الإرهابية.
هكذا تبدو المشكلة اليمنية معقدة ومتشابكة، وبقدر محليتها فهي مشكلة إقليمية أيضا بحكم دور مجلس التعاون الخليجي وقلقه ومخاوفه، ولا سيما امتدادها وعناصرها الخارجية، بما فيها إيران وهي مشكلة دولية في الوقت نفسه، سواء تطورها الداخلي أو نشاط تنظيم القاعدة والإرهاب الدولي فيها ومسارها اللاحق، ولعل هذا ما عبّر عنه السفير البريطاني جوناثان ويلكس، في مقابلة له، حين قال "لدينا بعض القوات في المنطقة، ولها أهمية استراتيجية في الخليج والبحر الأحمر والبحر المتوسط، وهناك تنقّلات مستمرة عبر هذه المنطقة، ولهذا ستظل اليمن تتصدر جداول الأعمال الدولية".
وأضاف سفير بريطانيا في صنعاء بخصوص توصيفه للمشكلة اليمنية بالقول إنها "ليست مجرد أزمة يمنية، إنها مشكلة ذات بعد دولي، وهذا واضح عند النقاش في مجلس الأمن، فإن روسيا والصين تشتركان في القلق الذي يساور بريطانيا وأمريكا وفرنسا". ولعل هذا التوصيف ينطبق على مواقف القوى الكبرى في مسألة ليبيا وسورية أيضا، وهي إشكالية لم تعد خافية على أحد بحكم تعارض أو اتفاق المصالح الدولية بما فيها للقوى المتنفذة، خصوصا واشنطن ولندن وباريس أيضا.
ولعل سؤالا محرجا سيثار لماذا لم يتخذ مجلس الأمن وجامعة الدول العربية قرارات مثلما اتخذت بحق ليبيا؟ وكيف تدخّل حلف الناتو بهذه السرعة، في حين لم يحرّك المجتمع الدولي ساكنا، باستثناءات محدودة بخصوص اليمن، على الرغم من شلال الدم والعنف المنفلت من عقاله منذ أشهر؟ أهو وجود النفط في ليبيا أم أن تدخلا في اليمن سيكون له انعكاسات سلبية على دول الخليج؟ أم أن الوجهة العامة ليست كما يريدها الغرب وقواه المتنفذة؟! ومثل هذه الأسئلة مشروعة قانونيا وسياسيا، وبالطبع لا ينبغي تفسيرها وكأنها دعوة للتدخل الخارجي، ولا سيما العسكري، وإنْ كان من واجب المجتمع الدولي حماية السكان المدنيين الذين يعانون أشدّ المعاناة، وهي حماية مفروضة بحكم مبادئ التدخل الإنساني، وإن كان الغرب قد استخدمه في حالات أخرى، لأغراض سياسية ووظّفه بطريقة فيها انتقائية في المعايير وازدواجية في السياسات.