أوروبا والمقامرة الخطيرة

إن الحكومة اليونانية في احتياج إلى الهروب من موقف بالغ الصعوبة. فهي مثقلة بمستوى لا يمكن تصوره من الديون الحكومية (150 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المنتظر أن يرتفع المستوى هذا العام بمقدار عشر نقاط مئوية أخرى)، واقتصاد في طريقه إلى الانهيار (حيث هبط الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتجاوز 7 في المائة هذا العام؛ الأمر الذي دفع معدل البطالة إلى الارتفاع إلى 16 في المائة)، وعجز مزمن في ميزان المدفوعات (8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الآن)، وبنوك معسرة تفقد الودائع بسرعة.
ومن الواضح أن السبيل الوحيد لخروج اليونان من هذه الأزمات الطاحنة هو التخلف عن سداد ديونها السيادية. وعندما تفعل ذلك فيتعين عليها أن تخفض القيمة الاسمية للدين الأصلي بنسبة لا تقل عن 50 في المائة. والواقع أن الخطة الحالية لخفض القيمة الحالية للسندات التي يحتفظ بها القطاع الخاص بنسبة 20 في المائة تُعَد مجرد خطوة أولى صغيرة نحو هذه النتيجة.
إذا انسحبت اليونان من اليورو بعد تخلفها عن سداد ديونها، فسيكون بوسعها أن تخفض قيمة عملتها الجديدة، وبالتالي تحفيز الطلب والتحول في نهاية المطاف نحو تحقيق فائض تجاري. كانت هذه الاستراتيجية المتمثلة في ''التخلف عن السداد وخفض القيمة'' ناجحة دوما بالنسبة لبلدان في أجزاء أخرى من العالم عندما وجدت نفسها في مواجهة دين حكومي ضخم إلى حد لا يمكن تصوره وعجز مزمن في الحساب الجاري. ولكن هذا لم يحدث في اليونان فقط؛ لأن اليونان أصبحت حبيسة العملة المشتركة.
والواقع أن الأسواق تدرك تمام الإدراك أن اليونان، بسبب إعسارها، ستتخلف في نهاية المطاف عن سداد ديونها. ولهذا السبب، ارتفع أخيرا سعر الفائدة على سندات الحكومة اليونانية ذات السنوات الثلاث إلى أكثر من 100 في المائة، وأصبح العائد على سندات السنوات العشر 22 في المائة، وهو ما يعني أن كل مائة يورو من الدين الأصلي المستحق بعد عشرة أعوام تساوي اليوم أقل من 14 يورو.
لماذا إذن يسعى الزعماء السياسيون في فرنسا وألمانيا إلى منع - أو بتعبير أكثر دقة تأجيل - ما لا مفر منه؟ هناك سببان وراء ذلك في واقع الأمر.
الأول أن البنوك وغيرها من المؤسسات المالية في ألمانيا وفرنسا كانت مُعَرَّضة بشكل كبير للديون الحكومية اليونانية، سواء بشكل مباشر أو من خلال الائتمان المقدم إلى البنوك اليونانية وغيرها من البنوك في منطقة اليورو. وتأجيل التخلف عن السداد يمنح المؤسسات المالية الفرنسية والألمانية الوقت اللازم لبناء رؤوس أموالها، وخفض تعرضها للبنوك اليونانية عن طريق عدم تجديد الائتمان عندما يأتي موعد استحقاق سداد القروض، وبيع السندات اليونانية للبنك المركزي الأوروبي.
أما السبب الثاني، والأكثر أهمية، وراء النضال الفرنسي الألماني لتأجيل تخلف اليونان عن سداد ديونها فيتلخص في الخطر المحتمل في أن يؤدي تخلف اليونان عن سداد ديونها إلى تحفيز التخلف عن سداد الديون السيادية في بلدان أخرى، فضلا عن مسارعة المودعين إلى استرداد ودائعهم لدى أنظمة مصرفية أخرى، وخاصة في إسبانيا وإيطاليا. وكان القرار الذي اتخذته مؤسسة ستاندرد آند بورز أخيرا بخفض التصنيف الائتماني لإيطاليا سببا في إبراز ذلك الخطر.
والواقع أن التخلف عن سداد الديون من جانب أي من هذين البلدين الكبيرين من شأنه أن يخلف عواقب وخيمة بالنسبة للبنوك وغيرها من المؤسسات المالية في فرنسا وألمانيا. صحيح أن صندوق الاستقرار المالي الأوروبي كبير بالدرجة الكافية لتغطية احتياجات التمويل في اليونان ولكنه ليس ضخما بالدرجة الكافية لتمويل إيطاليا وإسبانيا إذا فقدتا القدرة على الوصول إلى الأسواق الخاصة. وعلى هذا فإن الساسة في أوروبا يأملون من خلال إظهار أن حتى اليونان قادرة على تجنب التخلف عن سداد ديونها منح الأسواق الخاصة القدر الكافي من الثقة في قدرة إيطاليا وإسبانيا على سداد ديونهما لكي تستمر في إقراض حكومتي البلدين بأسعار فائدة معقولة وتمويل بنوكهما.
وإذا سُمِح لليونان بالتخلف عن سداد ديونها في الأسابيع المقبلة، فإن الأسواق المالية ستعتبر أن تخلف إسبانيا وإيطاليا عن سداد ديونهما أصبح أمرا أكثر ترجيحا. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة على القروض المقدمة إلى البلدين بشكل سريع وحاد، وبالتالي التسبب في إعسارهما فعليا. وبتأجيل تخلف اليونان عن سداد ديونها لعامين، فإن الساسة في أوروبا يأملون منح إسبانيا وإيطاليا الوقت اللازم لإثبات قدرتهما على الاستمرار ماليا.
إن مرور عامين كاف للسماح للأسواق بأن ترى ما إذا كانت بنوك إسبانيا قادرة على التعامل مع انخفاض أسعار العقارات المحلية، أو ما إذا كان التخلف عن سداد قروض الرهن العقاري قد يؤدي إلى إفلاس البنوك على نطاق واسع، الأمر الذي يعني اضطرار الحكومة الأسبانية إلى تمويل ضمانات الودائع الضخمة. والعامان المقبلان كافيان أيضا لكشف الظروف المالية للحكومات الإقليمية في إسبانيا، والتي تكبدت ديونا تضمنها الحكومة المركزية في نهاية المطاف.
وعلى نحو مماثل، قد تحصل إيطاليا خلال هذين العامين على الوقت الكافي لإثبات ما إذا كانت قادرة على وضع موازنة منضبطة. والواقع أن حكومة برلسكوني نجحت أخيرا في تمرير مشروع قانون الموازنة المصمم لرفع العائدات الضريبية وتحقيق الموازنة المنضبطة بحلول عام 2013. بيد أن تحقيق هذه الغاية سيكون صعبا؛ لأن إحكام الضوابط المالية من شأنه أن يخفض الناتج المحلي الإجمالي الإيطالي، والذي ينمو بشق الأنفس الآن، ويقلص العائدات الضريبية بدوره. أي أننا نستطيع أن نتوقع احتدام المناقشة في غضون عامين حول ما إذا كان ضبط الموازنة قد تحقق بالفعل على أساس معدل دوريا. وستشير فترة العامين أيضا إلى ما إذا كانت البنوك الإيطالية في حال أفضل مما يخشى الكثيرون الآن.
وإذا أبدت إسبانيا وإيطاليا القدر الكافي من الصحة بحلول نهاية العامين، فسيصبح بوسع الزعماء السياسيين في أوروبا أن يسمحوا لليونان بالتخلف عن سداد ديونها من دون خوف من انتقال العدوى الخطيرة إلى بلدان أخرى. وقد تتبع البرتغال اليونان في التخلف عن سداد الديون السيادية والانسحاب من منطقة اليورو. ولكن الدول الأكبر حجما سيكون بوسعها تمويل أنفسها بأسعار فائدة معقولة، وسيصبح في الإمكان الاستمرار على نظام منطقة اليورو الحالي.
لكن إذا عجزت إسبانيا أو إيطاليا عن إقناع الأسواق على مدى العامين المقبلين بأنها سليمة ماليا، فإن أسعار الفائدة سترتفع بالنسبة لحكومتها وبنوكها بشكل حاد، وسيتبين بوضوح أنها أصبحت معسرة. وعند هذه النقطة، فإنها ستتخلف عن سداد ديونها. وقد تصبح عاجزة ولو بشكل مؤقت على الأقل عن الاقتراض، وهو ما قد يغريها بشدة إلى الانسحاب من العملة المشتركة.
لكن يتعين علينا أن ننتبه إلى خطر أقرب وأعظم: فحتى لو كانت إسبانيا وإيطاليا سليمتين جوهريا من الناحية المالية، فقد لا يتسنى لهما الحصول على فرصة العامين لإثبات ذلك. والواقع أن مستوى أسعار الفائدة المفروضة على اليونان يثبت أن الأسواق تعتقد أن اليونان ستعجز عن سداد ديونها في وقت قريب جدا. وحتى قبل أن يحدث التخلف عن السداد بالفعل، فإن أسعار الفائدة على الديون الأسبانية والإيطالية قد تسجل ارتفاعا حادا، وهو ما من شأنه أن يضع هذين البلدين على مسار مالي مستحيل. وقد يتعلم الساسة في منطقة اليورو بالطريق الصعب آنئذ أن محاولة خداع الأسواق تُعَد استراتيجية بالغة الخطورة.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي