الذبابة والنحلة ...
(1)
تتشابه بعض أفعال البشر بسلوك الحشرات، والحشرات منها ما هو نافع وآخر ضار، فالنحلة تبحث عن رحيق الأزهار فتصنع العسل، والذبابة تقع على القاذورات كي تخرج القذى، وأحدنا في هذه الحياة عليه الاختيار الحر أن يكون نحلة أو ذبابة. يقول جون ماكسويل في كتابه "21 صفة لا غنى عنها في القائد": "لا نملك السيطرة على الكثير من الأشياء في حياتنا، فنحن لا نختار والدينا ولا مكان أو ظروف ميلادنا ونشأتنا كما لا نختار ما نتمتع به من مواهب أو درجة ذكاء. لكننا بالتأكيد نملك الخيار بشأن شخصياتنا. في الواقع إننا نشكل شخصياتنا بأيدينا في كل مرة نقدم فيها على خيار".
(2)
موهوم من يظن أن الحياة بستان أو أحراش أو غابات من الورود، ومخطئ أكثر من يرى الحياة زبالة، والحقيقة أن الحياة المعيشة خليط بين هذا وذاك، وتتفاوت نسبة التركيب بين إنسان وآخر، وبين بيئة ومثلها .. ما عليك إذاً سوى التسليم العاقل ثم لك الخيار. يقول جيفري جيتومر في كتابه "التوجه الإيجابي الفعّال": "إن التوجه الإيجابي لا علاقة له بما يحدث لك، بل متعلق بالكيفية التي تتعامل بها مع ما يحدث، وردّة فعلك حياله".
( 3 )
الإنسان النحلة فيه سمات منها:
1) الإنسان وردة: ازرع عقلك الباطن بحسن الظن بالناس فالله أحسن تصوير الإنسان ثم هدى قال تعالى "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ" سورة التغابن آية 4، ففي المخلوق تتجلى قدرة الخالق ومحال أن يكون ذلك التصوير أعوج، ثم إن حسن ظنك الواجب بالخالق يتبعه حسن ظنك بالمخلوق عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - عن ربه - جلا وعلا: "أنا عند ظن عبدي بي" أخرجه البخاري. إنك ستحصد الحب بعد إيمانك بالله ثم بالإنسان.
2) اعرف نفسك: إن خلية النحل مكونة من ملكة وذكر وخدم تتعاون وفق نظام متقن من أجل غرض نبيل هو عمارة البيت "الأرض"، وعماده النظام: التخصص، ولا تخصص ممكنا دون أن تعرف من أنت؛ من أجل أن تعرف ماذا تريد، ثم تلعب دورك الصحيح في إطار الجماعة فتعيش في سلام ووئام في محيطك. يقول براين تراسي: شخص من دون أهداف مثل سفينة من غير دفة تترنح بلا وجهة وتكون دوماً في خطر وينتهي بها الحال بأن تتحطم"، لقد وجدت أن أغلبية مشكلات الناس نابعة من ذاتهم في اللاوعي وانعكست ممارستهم الخاطئة في الوعي ضد الآخرين، بمعنى آخر هم في حقيقتهم نحلة يمارسون دور الذبابة، إن أعظم معركة نخوضها في الحياة هي ليست معركتنا مع الآخرين، بل مع ذواتنا الأمارة بالسوء.
3) الفأل الفأل: يقول - صلى الله عليه وسلم: "تفاءلوا بالخير تجدوه" أخرجه البخاري ومسلم، والسؤال: هل صناعة الفأل تؤثر في الإيمان الإيجابي بالمستقبل فينطبع في التفكير فيحسن المزاج ويقوي الجسد ثم يترجم بالسلوك فيحصل المقصود؟
أم إنه توفيق رباني يحالف المستبشرين دوماً بأن يقذف الله في روعهم الحق فيصدقه العمل؟ والجواب والله أعلم أنهما معاً يقول، جيمس ألين: "من وحي قلب الإنسان تتحدد مجريات حياته عندها تتحول أفكاره إلى أعمال وتحمل أعماله ثمار الشخصية والغاية".
4) أين يذهب العسل؟ أد وظيفتك باقتدار ولا تسأل كثيراً عن النتائج، فالنحل في القاموس المحيط يعرّف بأنه: العطاء بلا عوض، فصنّاع الحياة يرثون السمعة الحسنة، فالنحلة عندي وعندك وعند غيرنا نحلة لا يأتي منها إلا الخير وثق تماماً تماماً بأن الأرض يرثها الصالحون والعاقبة عسل مصفى لا يأكل منه إلا المحتسبون، قال تعالى: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين" سورة القصص - آية 83.
5) ثابر .. ثابر: مهمة البحث أحياناً شاقة ومضنية، فقد تجف السماء وتجدب الأرض وما لك إلا الصبر، فقَدَر الأشياء الثمينة الصحيحة؛ روح دؤوبة لا تكل ولا تمل قال تعالى: "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" سورة فصلت - آية 35، إن الناس كل الناس لا يتفاوتون في القدرة والذكاء، بل يتفاوتون في الجلد، يقول نابليون بونابرت: "لا يحظى بالنصر سوى أكثر الناس إصراراً ومثابرة" وتعزيز الصبر لا يكون إلا بمعية جماعة المتفائلين وتقليل الخلطة بالمتشائمين.
(4)
أما الإنسان الذبابة ففيه سمات منها:
1) الدنيا ما فيها خير: يشن الذبابة الإنسان أو الإنسان الذبابة حرباً نفسية بإشاعة كذبة يكررها في كل مجلس وكيلاً عن ابن خالته الشيطان بأن الناس هالكة، فالدنيا لا تجمع إلا الخائنين اللصوص والكذبة والغدارين والأفاقين والمنحلّين فيصور لك الحياة على أنها زبالة وما عليك سوى أن تأكل منها لا محالة، والنبي - صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى الناس أنها هالكة فهو أهلكهم" أخرجه مسلم.
2) لا غيبة لفاسق: يعَرَفُ الذبابة أن تسويق أدواته الخائبة من غيبة ونميمة وبهتان تحتاج إلى غطاء، لأن النفس الطبيعية تأنف التعدي فيخرج لك نصوصاً لكيلا يسمح لك بأكل أعراض الناس بالباطل وحسب، بل أنت مأجور على ذلك فتكون غيبة مطابقة لأحكام الشريعة الإسلامية! .. فينشر أعراض الناس نشراً ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.
3) يفرحون بالخراب: تقتات الذبابة على المصائب والنكبات والفشل فتفرح حين يحزن الناس وتحزن حين يفرح الناس .. إن هذه النفس المريضة تعرفهم بسيماهم وفي لحن القول ذلكم أنهم يروجون ويلتقطون الأخبار السيئة الفاحشة واختلاق القصص والمؤامرات ويسعرون نار الغضب والكراهية، وهناك وسيلة سهلة لاكتشافهم وهي أن تسأل نفسك عن حالك بعدما يغادر مجلسك .. إنهم نذرَ شؤم لقد رأيت فيهم النفاق "ذو الوجهين" ويسمونه سياسة، وفيهم البخل ويسمونه اقتصاد.
4) استثمار الخراب: نجح بعض الذباب في تحقيق مكاسب مادية ومعنوية فأصبحت بطونهم منتفخة بالحلال والحرام ومرحباً بهم على الموائد الخاصة والعامة لغرض تلقف الأخبار - عشاء غيبه على وزن عشاء عمل - فتحول خطئهم تلو الخطأ إلى مهنة يرتزق بها ويشجعه ذباب آخر أكبر منه للاضطلاع بهذا الدور بيد أن بعضهم أراد الانفكاك وما استطاع قال تعالى: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكســــــــبون" سورة المطفــــفين - آية 14.
5) منّاع الخير: يقف بعضهم دون شفقة أو رحمة أو تسامح أو تحفيز أو تقدير حائلاً بين الخير والناس وبين الناس وولاتهم كأنهم وكلاء الشيطان على خلق الله قال تعالى: "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ" سورة البقرة - آية 205، وفساد بعض الذباب يتمثل في تأويل الأحكام أو الأنظمة تأويلاً لحرب الناس والتضييق عليهم لا لسعادتهم ورخائهم، إنهم يقتلون الفرحة والفرص الواعدة لازدهار الوطن ونمو المجتمع .. تأكلهم الغيرة والتردد والخوف من كل ما هو قادم .. إنهم أعداء الحياة.
(5)
إن الأبطال الممتازين من أمثالك عزيزتي أو عزيزي القارئ هم على هيئة أبيهم آدم رسل سلام ومحبة وإشاعة الطمأنينة وجبر الخاطر وتعميم الثناء، وهم طلائع التأثير والقيادة والتحضّر والتقدم، وروحهم روح النحلة تختار الطيب من القول والفعل عبر ممارسة الخداع المباح بالاحتفال بالإنجاز والتغاضي عن الإخفاقات والسعي الذكي بالعمل الهادئ إلى معالجتها، ويتبقى على أولئك المترددين حرق سفن اللوم والتشكي والتذمر وإلقاء التهم وأخذ زمام المبادرة دون انتظار الآخرين، وقارب النجاة والتمكين هو التفكير الإيجابي، فالتفكير الإيجابي ثم التفكير الإيجابي.
أيها السعوديون .. بكل صراحة: أنتم ورود.