حين تقول .. يا أنا
عندما يبدو لنا الكون كبيرًا جدًا نتوق حينها إلى ملاذ آمن، ولانتماء يحمينا من الشعور باللامتناهي في داخلنا، ذلك الإحساس الذي يحمله كُلٌّ منا بصمت في داخله ونشعر به أحيانًا بصورة هاوية لا قرار لها، لكننا عندما ننتمي إلى مجموعة ما فإنها تتحول إلى شاطئ أمان نرسو فيه ليحمينا من ذلك التهديد الغامض الذي يمثله ذلك اللامتناهي في داخلنا والعالم الخارجي من حولنا، حيث ترغب الذات أحيانًا في تحطيم وحدتها والانتصار على حدودها والتحرر من قيودها، وكأن مسكن الذات في حاجة إلى تهوية، فلا غرابة في أن نراها تفتح نافذتها على مصراعيها من وقت لآخر، لكي تتمتع برؤية النماذج البشرية التي تتوالى تحت سمعها وبصرها.
إن الأزهار المقطوعة لا تعمر طويلاً، ولذا نحن نتوق إلى الصداقة كحاجة أساسية وليست اختيارية؛ لأنها مأوى نفسي بديل للفرد وأحد أهم متطلبات نموه الشخصي، حيث توفر العلاقات الحميمية تربة خصبة تنمو فيها روابط تقي الإنسان من القلق والوحدة، وقد عرَّف الحكيم أبي حيان التوحيدي الصديق بقوله "إنه أنت إلا أنه بالشخص غيرك"، موافقًا بذلك تعريف أرسطو من قبل بأنه "الأنا الآخر"، كما جاء في الرسالة القشيرية أن "المحبة لا تصلح بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر يا أنا".
ومع عمق القوة الشعورية لهذه التعريفات لكنها بالنسبة للكثيرين مجرد أقوال جوفاء غامضة تشبه الدائرة المربعة والمستطيل البيضاوي؛ لأنهم يميلون لمقولة العرب القديمة "المعجزات ثلاث: الغول والعنقاء والخل الوفي"، حيث يضيق البعض من فرجة نوافذه حين يصعد بداخله شروطه ومعاييره في الصداقة مع أنها تضم في ثناياها طيفًا واسعًا؛ لأنها ليست ظاهرة من نوع الكل أو لا شيء، وبإمكان المرء تنمية معارفه وتعميق علاقاته إلى أن يتوصل إلى الصداقة الحقيقية التي تمتلك قواعدها الخاصة التي لا يمكن المساس بها، والتي تنمو بمرور الوقت والتلاحم عبر أحداث الحياة، ويستلزم ذلك فعالية نفسية تتطلب وقتًا وطاقة قد لا يكون الكثير من الأشخاص على استعداد لها، وكما يقول المثل القديم: إذا أردت أن يكون لك أصدقاء فكن صديقًا، لكن البعض يظل أسرى التحفظ في علاقاتهم خوفًا من انكشاف مكامن قصورهم في حال الاحتكاك، وينطوي افتراضهم ذلك بداهة على اعترافهم بوجود إعاقة داخل النفس وكمال لدى الآخرين مع أننا جميعًا نعاني مكامن قصور، كُلٌّ بطريقته الخاصة.
في لحظات المعاناة تحديدًا، تغدو المشاركة العاطفية مع الآخرين علاجًا فائقًا وبلسمًا نفسيًا، حيث تضاعف العزلة من آلام المرء، وتجعلها فوق طاقته على الاحتمال ربما لاعتقاد الإنسان بأنه اختير دون غيره للمعاناة، لكن وجوده مع المجموعة يشعره بأن الأحزان والمسرات تصيب الناس جميعًا، وبأنه ليس هناك إنسان آمن من تقلبات العيش، ويخفف الشعور بالانتماء من انشغاله بالأفكار المتركزة حول الأنا، ويضعف الشعور برثاء الذات، ويسمح للشخص بمشاركة الآخرين أحزانهم وتجاوز آلامه الخاصة، وإن فن الصداقة يكمن في الاحتفاظ بذلك التوازن بين الأنا والآخر، فالتأكيد المفرط على فلسفة ترتكز على الاهتمام بالمصلحة الذاتية سلوك يعبر عن خواء النفس ويتعارض مع الانتماء، كما أن التعبير المفرط عن فلسفة تقوم على الارتباط مع الغير يصادر الفردية، وعلينا أن نبقي الأمرين ضمن الحدود المعقولة.
تذكر كتب التراث أن ابن عطاء السكندري سمع إنسانا يقول: "أنا في طلب صديق منذ 30 سنة فلا أجده" فأجابه: "لعلك في طلب صديق تأخذ منه شيئًا ولو طلبت صديقًا تعطيه شيئًا لوجدت"، لكن هذه الإجابة لم ترق حينها لأبي سليمان السجستاني فعقب عليها بمقولة تجسد قناعتي: "هذا كلام ظالم، فإن الصديق لا يراد ليؤخذ منه شيء أو ليعطي شيئًا، ولكن ليسكن إليه ويعتمد عليه ويستأنس به".