طوال 5 عقود .. سلطان هو نفس الأمير البشوش المبتسم
''لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير... ولكن الرزية فقد حُرٍّ يموت بموته خلق كثير''، تذكرت هذا البيت وأنا في طريقي إلى الصلاة على جنازة ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز.
وقد كَتَبَ العديد من الكتاب عن الأمير سلطان بن عبد العزيز وخصاله وسجاياه الإنسانية من البشاشة والحبابة وتودده إلى الآخرين والكرم والبذل والعطاء، وكَتَبَ آخرون عن سيرته العملية الطويلة ورؤيته السياسية وتجربته الإدارية، والتي يأتي من ضمنها شراء الأسلحة الحديثة وبناء المدن العسكرية في العديد من مناطق المملكة، وهي المدن التي أصبحت مراكز تنموية وتعليمية واقتصادية واجتماعية، إضافة لما فيها من الطابعين العسكري والأمني. لا أتوقعُ إضافة المزيد إلى ما كتبه هؤلاء الأفاضل وتسليطهم الضوء على جوانب السمو في ولي العهد - رحمه الله - كرجل دولة من الطراز الأول، وفي الوقت ذاته يتمتع بالبساطة والتواضع وحب الخير وإقالة عثرة كل من يلجأ إليه حتى طال اهتمامه ليس السعوديين فقط، بل العرب والمسلمين أينما حلُّوا وكانوا؛ لذا سأكتفي بعرض واقع تجربتي الشخصية مع الأمير سلطان - يرحمه الله - وسماته الشخصية التي تتكشف لكل من يتعامل معه أو يدنو منه.
وكان مما دعاني كذلك إلى استدعاء هذه الجوانب الخاصة عن الراحل الكبير سؤال لفتني من أحد الأصدقاء غير السعوديين والذي يقيم في المملكة عن سر هذا الحزن الذي يغلف الأجواء في المملكة ويراها مرتسمة على وجوه مواطنين عاديين قد لا ينتبهون كثيرا إلى قدرات رجال الدولة وسياساتهم في إدارة الأمور، ودلالات هذا الحزن العميق، فكانت إجابتي أن خير هذا الرجل وصل إلى كثير، إن لم يكن جل بيوت السعوديين في المملكة، فلم يَردّ يوما أحدا، بل كان لقاؤه - رغم مشاغله يرحمه الله - أسهل في كثير من الأحيان من لقاء مسؤولين أقل رتبةً بكثير منه؛ لذا أنا أكتب عن أبي خالد الإنسان مُركّزا على العلاقة الشخصية وليس على العلاقة الرسمية.
لا يمكنني أبدا نسيان المرة الأولى التي التقيت فيه الأمير سلطان بن عبد العزيز، كانت في حفلة في بيت الوالد - رحمه الله - في شارع الغرابي، وكان الأمير أحمد بن عبد العزيز يهوى التصوير السينمائي وكان يصور تلك الأحداث، ولا أنسى حبابة وتودد الأمير سلطان ومداعبته لنا، إذ كنا أطفالا، وكان عمري حين ذاك لا يتجاوز العاشرة، ومن المسلّم به كيف يتعلق الأطفال دوما بمن يداعبهم ويلاطفهم، ومرت السنوات وبقيت المحبة في القلب تتعاظم لهذا الرجل النبيل، ذهبت بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية على حساب خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز - رحمه الله - ثم توفي والدي - رحمه الله - ورجعنا إلى الرياض، وقمنا بزيارة الأمير سلطان حيث طلب مقابلتنا، ولا أنسى كلامه معنا والدموع في عينيه، أشعرني صدقه بأنه يشاركني كل أحزاني، وكان يؤكد، بل يصرُّ ''أنني أنا مكان والدكم وإذا احتجتم أي شيء فلا تترددون''.
لعل هذا الرجل يُجبرك على محبته وتقديره، لقد كانت هذه الوقفات سبيلا إلى نمو المحبة وترابط المودة بأسلوب مختلف، حيث كنت يومها شابا في بداية العشرينات من العمر، ومرت السنون وتجدد اللقاء مرة أخرى عند وفاة أخي ماجد، وقد كان الحزن واضحا على الأمير سلطان وأخذ يردد لي بأن ماجد يعتبر مثل واحد من أبنائه.
وأذكر من دلائل تفرده واختلافه - رحمه الله - عن الآخرين وطريقة إدارته واعترافه بالتخصص أني كتبت مقالا في ''الاقتصادية'' نشر في 14 تشرين الثاين (نوفمبر) 2007 عن إعادة النظر في الإعانات، وأن الإعانات الحكومية بوضعها الحالي لا تسمن ولا تغني من جوع ووجوب إعادة هيكلتها، وعلى الرغم من مخالفتي للتوجه العام للدولة في هذا الشأن، إلا أنه لم يعنّفني على ذلك المقال، بل طلب مني عن طريق مكتبه تقديم دراسة تدعم وجهة نظري، وقد قمت بذلك وقام - رحمه الله - بتوزيعها على جميع أصحاب الشأن لإبداء رأيهم فيها.
إنني أجزم بأن أصعب وأرقى أنواع الكرم هو كرم النفس، فقد يسهل على المرء بذل المال والجاه، ولكن من الصعوبة البالغة إعطاء الإنسان من نفسه. الفقيد كان مع حرصه الشديد على الصالح العام يجيد التواصل الفعال مع الجميع فأحبه الجميع، بدءا مع الأطفال وتواصله معهم وقد مررت بتلك التجربة شخصيا وتعلقت به طفلا ثم شابا يتواصل معنا بعقل منفتح ومتفهم لطموحات الشباب ودوافعهم واندفاعهم وحماستهم، وهي أمور يستشعرها كل من كان له تعامل شخصي معه - يرحمه الله - وهم كُثُر. والآن وأنا على مشارف الستين من العمر لا أزال أتذكر تواصله معي خلال العقود الخمسة الماضية، هو نفس الأمير المبتسم الذي يقابلك بكل محبة وبشاشة، رحمك الله أبا خالد وأحسن عزاءنا فيك؛ فقد كنتَ مدرسةً جامعة إنسانا ورجل دولة.