مشروع «صدارة» للكيماويات.. محطة بارزة في رحلة المملكة نحو الصدارة عالميا
توقيع اتفاقية مشروع "صدارة للكيمياويات" في الظهران يوم السبت 8 أكتوبر الماضي يشكل نقلة نوعية في مسيرة تطور صناعة البتروكيماويات في المملكة، ليس فقط بسبب حجم المشروع الذي سيصبح عند تشغيله أكبر مجمع متكامل لإنتاج البتروكيمياويات في العالم بل لتنوع منتجاته التي يبلغ عددها 26 منتجا ينتج بعضها للمرة الأولى في المملكة ولالتزام الشريكين بتطوير منطقة صناعية Value Park للصناعات التحويلية في الجبيل تغذى بمخرجات المشروع بواسطة شبكة أنابيب ستخفض التكاليف التشغيلية للمشاريع المقامة فيها.
الأمر الآخر الذي يجسد ضخامة المشروع هو قيمة مبيعاته حين اكتمال تشغيل وحداته عام 2016 والتي تقدر بنحو عشرة مليارات دولار سنويا، وهو مؤشر إلى أن أغلب منتجات المشروع ستكون من المنتجات الكيميائية المتخصصة ذات القيمة العالية. وضخامة هذا الرقم تتجلى عند مقارنته مثلا بقيمة مبيعات سابك في عام 2010 التي بلغت 40.5 مليار دولار وكانت حصيلة مبيعات منتجات متنوعة أنتجت في 15 مجمعا صناعيا داخل المملكة ونحو 50 مجمعا خارجها.
وخلال مشاركتي في حفل التوقيع المميز ـ إخراجا ـ سمعت همسا سبق طرحه في مرحلة سابقة في وسائل الإعلام والمنتديات الاقتصادية عن المنافسة بين منتجي البتروكيماويات في المملكة خلال الفترة المقبلة. ولأهمية الموضوع سأحاول في هذه المقالة تقديم إجابة عن السؤال التالي: هل المنافسة في قطاع البتروكيماويات في المملكة مصدر قوة للاقتصاد الوطني أم مبرر للقلق؟
تكامل الأدوار وراء النجاح في مرحلة التأسيس
قبل تناول موضوع هذه المقالة قد يكون من المناسب الإشارة إلى أن صناعة البتروكيماويات تكتسب أهمية خاصة بالنسبة للاقتصاد الوطني كونها تمثل حجر الزاوية في إستراتيجية التنمية الصناعية في المملكة التي تهدف إلى تحويل الاقتصاد السعودي إلى اقتصاد متعدد الموارد. وليس من المبالغة القول بأن المملكة نجحت في فترة وجيزة نسبيا في التحول إلى أحد أهم مراكز إنتاج البتروكيماويات السلعية Commodity Petrochemicals على مستوى العالم. فسابك اليوم تعد الأولى عالميا في إنتاج الإثيلين جلايكول واليوريا والثانية عالميا في إنتاج الميثانول والبولي كاربونيت والثالثة عالميا في إنتاج البولي إثيلين والرابعة عالميا في إنتاج البولي بروبلين.
وبدأت رحلة تصنيع البتروكيماويات في المملكة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي عندما قامت الدولة بإرساء قاعدة صناعة ذات تنافسية عالمية تمثلت في تأسيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع لإنشاء البنية التحتية في المدينتين الصناعيتين، وبناء وتشغيل شبكة الغاز الرئيسية من قبل أرامكو السعودية، وإنشاء سابك لإنتاج وتسويق البتروكيماويات. وكل تلك الخطوات تمت بنجاح كبير مرده إلى توزيع الأدوار والدرجة العالية من التنسيق والتكامل فيما بين أطراف المثلث الذهبي: أرامكو السعودية والهيئة الملكية وسابك.
وشملت خطوات الدولة الداعمة توفير القروض الميسرة من خلال صناديق التمويل الحكومية لتمويل مشاريع البتروكيماويات ذات التكاليف الرأسمالية العالية. كما تم صياغة شراكة مع كبريات الشركات العالمية المتخصصة جرى من خلالها مبادلة جزء من الميزة النسبية التي تملكها المملكة في مجال الطاقة وخامات التغذية نظير الاستفادة من إمكانات الشركاء الأجانب في مجال التقنية والتسويق وتدريب الكوادر البشرية الوطنية.
وشكلت صيغة المشاريع المشتركة وسيلة عملية وناجزة ـ في مرحلة التأسيس على وجه التحديد ـ لبناء مشاريع ناجحة تحقق الربح لجميع الشركاء وتخدم أغراض التنمية في المملكة. واكتملت حلقات النجاح بوجود رؤية ثاقبة تحلى بها الملك فهد ـ يرحمه الله ـ لم تهتز بتوصيات جهات استشارية عالمية تم تكليفها من قبل حكومة المملكة بدراسة جدوى تصنيع البتروكيماويات كخيار لاستغلال الغاز الطبيعي المصاحب الذي كان يحرق هدرا وأجمعت في حينها على عدم جدوى تصنيع للبتروكيماويات في المملكة، موصية بالاكتفاء بدلا من ذلك بإنتاج وتسويق البترول والغاز الطبيعي. لكن لحسن الحظ لم تلق تلك التوصيات آذانا صاغية من الحكومة في حينه وأضحت التجربة السعودية لاحقا مثالا يحتذى به إقليميا وعالميا.
#2#
ويتجسد نجاح صناعة البتروكيماويات السعودية في تحقيق أهداف المملكة من خلال استعراض بعض المؤشرات الاقتصادية ومنها قيمة صادرات المملكة من الكيماويات والبلاستيك التي ارتفعت من نحو 1.5 مليار ريال تشكل ما نسبته 1.1 في المائة من إجمالي قيمة صادرات المملكة في عام 1984 إلى 82 مليار ريال تشكل ما نسبته 8.8 في المائة من إجمالي قيمة صادرات المملكة في عام 2010 وفقا للتقرير السنوي السابع والأربعين لمؤسسة النقد العربي السعودي وللتقرير الإحصائي لعام 2010 الصادر من مصلحة الإحصاءات العامة. وصدرت المملكة في العام الماضي 33.3 مليون طن من البتروكيماويات مثلت ثاني أكبر الصادرات السعودية بعد البترول الخام والمنتجات البترولية المكررة من ناحية الحجم والقيمة.
وعلى الرغم من نجاح المملكة في تبوء مركز متقدم عالميا في إنتاج البتروكيمياويات السلعية وبنسبة تصل حاليا إلى نحو 10 في المائة من حجم الإنتاج العالمي إلا أن ذلك لم يضعها بعد ضمن أكبر عشر دول في إنتاج الكيمياويات لجهة القيمة حسبما موضح في الشكل (1). لكن هذه الصورة ستتغير مستقبلا مع تشغيل مشاريع إنتاج الكيمياويات المتخصصة ذات القيمة المضافة العالية التي ينفذها عدد من منتجي البتروكيمياويات في المملكة وفي مقدمتهم سابك وأرامكو السعودية في مشاريع "كيان السعودية" و"صدارة" والمرحلة الثانية من مشروع "بترورابغ"، إضافة إلى مشاريع تطورها حاليا شركتي تصنيع وسبكيم.
المنافسة في قطاع البتروكيماويات السعودي .. البدايات
في عام 1995م دخلت صناعة البتروكيماويات في المملكة منعطفا مهما تمثل في دعوة مجلس الوزراء للقطاع الخاص السعودي للاستثمار في قطاع الصناعات البتروكيماوية الأساسية. وشكل بدء تشغيل مشروع شركة شيفرون السعودية في عام 1999 والمملوك بالكامل من قبل القطاع الخاص أول استجابة من القطاع الخاص لتلك الدعوة ونهاية لحقبة كانت سابك خلالها اللاعب الوحيد في هذا القطاع. وشهدت السنوات التالية دخول لاعبين جدد من القطاع الخاص إلى نادي منتجي البتروكيماويات السعوديين في مقدمتهم شركات: التصنيع الوطنية وسبكيم والمتقدمة والصحراء واللجين/ناتبيت. وتوج التوسع في عضوية نادي المنتجين بإعلان أرامكو دخولها هذا القطاع في عام 2009 بعد تشغيل مجمع بترورابغ.
هذه التغييرات في هيكل الصناعة بالمملكة خلقت بيئة تنافسية سيكون لها بتقديري انعكاسات إيجابية على الصناعات التحويلية في المملكة، حيث سيتوفر للأخيرة خيارات أكبر نتيجة لتعدد الموردين وتنوع قاعدة المنتجات المتاحة، الأمر الذي سيوفر الخامات بأسعار تنافسية مصحوبة بخدمات دعم فني وتسويقي تعزز فرص نمو الصناعات التحويلية والتي تكمن أهميتها في كونها تحقق قيمة مضافة أعلى وتوفر عددا كبيرا من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة.
وهذه المنافسة ستنعكس أيضا إيجابا على المنتجين أنفسهم فهي المحفز للابتكار والتطوير المستمر ورفع معدلات الإنتاجية وتقليل التكاليف التشغيلية، وهذه بمجموعها تعتبر مفاتيح النمو في الأسواق الخارجية والداخلية على حد سواء.
وتأسيسا على ذلك فإن دخول أرامكو السعودية حلبة المنافسة هو تحصيل حاصل ولا يبرر المخاوف التي يطرحها البعض مستندين إلى كون أرامكو السعودية هي المنتج للغاز والمشتقات البترولية المستخدمة كلقائم في هذه الصناعة.
وهي مخاوف ليست في محلها في ظل سياسات وآليات واضحة انتهجتها وزارة البترول والثروة المعدنية في تخصيص الغاز والمشتقات النفطية للمشاريع الجديدة تستند إلى المفاضلة بين المشاريع وفقا للعوائد الاقتصادية والاجتماعية للمشروع مع أفضلية لتلك التي تحقق أعلى العوائد للوطن حاضرا ومستقبلا.
«أرامكو» والدخول في نادي منتجي البتروكيماويات
توجه أرامكو السعودية الاستراتيجي لدخول هذا القطاع والذي ترجمته الشركة ليس فقط من خلال مشاريعها في المملكة (بترورابغ وصدارة) بل أيضا في مشروع مجمع فوجيان في الصين الذي تم تشغيله بنهاية عام 2009 ويتضمن مصفاة لتكرير النفط تتكامل مع مجمع لإنتاج 2.9 مليون طن من البتروكيماويات سنويا.
وهذا التوجه يشكل استكمالا لحلقات السلسلة الإنتاجية في صناعة النفط والغاز باتجاه تعظيم القيمة المضافة للموارد الهيدروكربونية يتسق مع التوجهات العالمية لهذه الصناعة التي تشكل فيها نسبة مصافي تكرير البترول التي تتكامل مع مجمعات بتروكيماوية نحو 80% من إجمالي مصافي التكرير في العالم.
وهذه النسبة العالية مرتبطة بكون صناعة التكرير تتميز بدرجة عالية من التعقيد وبمحدودية هوامش الأرباح التي يتم تحسينها بدرجة كبيرة من خلال التكامل بين المصفاة التي تؤمن مصدر موثوق لإمداد المجمع البتروكيماوي باللقائم إضافة إلى تقليل التكاليف من خلال المشاركة في استخدام وحدات المنافع والخدمات. وهذا التوجه تبنته أكبر شركات النفط العالمية IOCs أو ما تبقى اليوم من الشقيقات السبع التي تمتلك شركات للكيماويات تعد اليوم من بين الأكبر عالميا.
وحسبما يوضح الجدول رقم (1) فإن كلا من أكسون موبيل الأمريكية وشيل الأنجلوسكسونية وتوتال الفرنسية احتلت مراتب متقدمة ضمن قائمة أكبر شركات الكيماويات العالمية من حيث قيمة المبيعات في عام 2010. وتقدمت الركب أكسون موبيل كيميكال التي احتلت المرتبة الثالثة عالميا بمبيعات قيمتها 53.6 مليار دولار، واحتلت شيل كيميكال المرتبة السابعة عالميا بمبيعات بلغت 39.6 مليار دولار، فيما احتلت توتال كيميكال المرتبة الحادية عشرة عالميا وبمبيعات بلغت نحو 24.5 مليار دولار.
يضاف إلى هذه المجموعة شركة النفط الوطنية الصينية (سينوبيك) التي تمتلك مجمعات متكاملة لتكرير النفط وتصنيع الكيمياويات وأحتلت في عام 2010 المرتبة الرابعة عالميا بمبيعات من الكيماويات بلغت 48.7 مليار دولار متقدمة على سابك التي احتلت المرتبة السادسة بمبيعات بلغت 40.5 مليار دولار. لكن سابك احتلت المرتبة الثانية لجهة إجمالي الأرباح وبفارق قليل بعد شركة باسف الألمانية؛ حيث بلغ إجمالي أرباح سابك العام الماضي 10.2 مليار دولار تشكل ما نسبته 25 في المائة من قيمة المبيعات وهي الأعلى بين نظيراتها العالمية.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: ما الذي سيحققه هذا التوجه الاستراتيجي لأرامكو السعودية؟
والجواب عن هذا السؤال يكمن في شقين: أولهما المصلحة الاقتصادية المتوقعة لأرامكو السعودية من تعظيم القيمة المضافة للنفط والغاز، وثانيهما المصلحة الوطنية الناتجة عن دخول شركة بحجم أرامكو لها خبرات متراكمة في تنفيذ مشاريع عملاقة ولها قوة تفاوضية تساعدها على تحقيق أفضل الشروط مع الشركاء الأجانب ومؤسسات التمويل ومقاولي البناء التشييد EPC بما يحسن من العوائد الاقتصادية للمشاريع وبما ينعكس إيجابا على الاقتصاد الوطني ويتسق مع توجهات الدولة لتعظيم العوائد الإجتماعية لهذه الثروة الناضبة.
وعليه يمكن اعتبار هذا التوجه بكونه يجسد المزاوجة بين مصلحة اقتصادية ووطنية.
ومن المعلوم أن تطوير مشاريع ذات تنافسية عالية في صناعة عالمية كصناعة البتروكيماويات يتطلب بناء كيانات كبيرة تمتلك ما يعرف Critical Mass ، وهذا الأمر بدوره يتطلب استثمارات ضخمة وقدرات تسويقية وإدارات احترافية لا تتوفر في الكيانات الصغيرة.
وأرامكو السعودية بما تملكه من إمكانات بشرية وتقنية ومادية تصنف ضمن الكبار الذين يملكون قدرات تنافسية عالية ستضمن لها تحقيق مكانة ريادية ليس فقط في مجال إنتاج البتروكيماويات بل في مجال تطوير التقنيات لهذه الصناعة الاستراتيجية.
فالكبار فقط هم الذين تتوفر لديهم الموارد المالية للاستثمار في مجالات مكلفة لكنها حيوية لمستقبل هذه الصناعة تتحدد في أمرين : تطوير الموارد البشرية الوطنية والبحث والتطوير.
#3#
ولعلي أشير في هذا السياق إلى حجم الاستثمارات المطلوبة لتحقيق الريادة عالميا في هذه الصناعة بإستعراض موازنات البحث والتطوير في كبرى شركات الكيماويات العالمية في عام 2010 المدرجة في الجدول (2) والتي تراوحت بين 1.3 - 2.0 مليار دولار تمثل ما نسبته 2.3 - 7 في المائة من قيمة مبيعات الشركات في تلك السنة. وتمثل الاستثناء من هذا النهج في كل من سابك وليونديل باسل، حيث كان حجم الإنفاق على البحث والتطوير في الشركتين على التوالي 154 و174 مليون دولار تمثل ما نسبته 0.37 إلى 0.43 في المائة من قيمة مبيعاتهما في عام 2010.
وتواضع الإنفاق من قبل الأخيرة قد يكون سببه مرور الشركة بمشاكل مالية وقانونية خلال السنوات القليلة الماضية. أما بالنسبة لسابك فقد يكون تواضع موازنة البحث والتطوير فيها مرده إلى كون الجزء الأعظم من منتجات الشركة يتمثل في البتروكيمياويات السلعية ذات الدرجة العالية من النضج maturity والتي لم تشهد تطوير تقنيات أو منتجات جديدة كليا منذ عقود طويلة.
ضخامة هذه الأرقام تضع تحديات إضافية أمام اللاعبين الصغار ويصبح من المهم أن يبلور هؤلاء استراتيجيات للنمو تهدف إلى تعزيز تنافسيتهم من خلال رفع الإنفاق على البحث والتطوير والنمو غير العضوي من خلال الإندماج والاستحواذ لخلق كيانات كبيرة قادرة على المنافسة بقوة في الأسواق العالمية.
خاتمة..
موضوع المنافسة والتكامل بين المشروعات الجديدة والقائمة في غاية الأهمية والحساسية، إذ إنه يؤثر في تخصيص الموارد وتقديم الحوافز والتسهيلات إضافة إلى تشغيل العمالة الوطنية. وبالتأكيد فإن المنافسة في حد ذاتها تعد أمراً مقبولاً بل ويجب تشجيعها لأنها تؤدي إلى الاستخدام الأمثل للموارد وتقليل التكلفة وخلق فرص لصناعات جديدة إما لإنتاج السلع الوسيطة أو النهائية، وفي الحالتين فإن هذا يؤدي إلى زيادة القيمة المضافة في الصناعة التحويلية ككل.
وفي ظل حالة التراجع والضعف التي تعانيها الاقتصادات العالمية في الوقت الحاضر يصبح الاستثمار في قطاع الصناعات االبتروكيماوية التحويلية أمرا ذا أهمية مضاعفة وتحديدا في الصناعات التي تدعم الاقتصاد الوطني وتمثل فرصة لتقليص حجم الاستثمارات الوطنية المباشرة وغير المباشرة في الأسواق العالمية التي لا نملك سيطرة مباشرة عليها .. ويشكل مشروع "صدارة للكيماويات" إحدى المحطات البارزة في رحلة المملكة نحو الريادة في هذا القطاع ومن بين أبرز الاستثمارات التي سيكون لها أثر كبير في تطوير قطاع الصناعات التحويلية في المملكة بما يصاحبها من استثمارات ضخمة مطلوبة في الخدمات اللوجستية والتطوير المستمر للبنى التحتية في المدن الصناعية والذي يعد بمثابة الإطار الضامن لتحقيق قفزات في تطوير صناعات تحويلية ذات تنافسية عالمية ضمن منظور الإدارة المثلى والشاملة للثروة الهيدروكربونية بما يعظم عوائدها الاقتصادية والاجتماعية.