تخصص الإدارة العامة أولا .. ثم إدارة الأعمال
هذا ما يعجز عن فهمه من يستهويه بريق تخصص إدارة الأعمال ظنا أن الإجراءات والعمليات والتطبيقات ومستوى تحقيق الأرباح أهم من الارتقاء بمستوى صنع الأهداف الوطنية وصياغة السياسات العامة وتطوير المنظمات الحكومية وتحسين الخدمات العامة. والحقيقة أن مستوى أداء القطاع الخاص مرهون بمستوى أداء القطاع العام، وهي حقيقة يجب إدراكها إذا ما أردنا كمجتمع أن نصل إلى مستويات أعلى من التنمية والمنافسة والإسهام في الحضارة الإنسانية. القطاع الخاص يدور في فلك القطاع العام ويحتاج إلى توجيه الجهود والموارد في اتجاه المصلحة الوطنية.
ولذا يجب ألا يكون الحرص على الكفاءة على حساب الفاعلية والتأثير النهائي. ولا احتاج إلى بذل مزيد من الإيضاح في أن القرار العام أهم من القرارات الخاصة؛ لأن الأخيرة تتبع الأولى وليس العكس. والدليل أن القرارات والجهود والموارد الحكومية هي من يقود التنمية ويهيئ لها ويمنحها هويتها ويصنع الفرق. فالعلاقة بين مستوى التنمية ومستوى العوائد المالية الحكومية ومقدار الإنفاق العام يوضح جليا أن دور معظم مؤسسات القطاع الخاص ما زال سلبيا، فهي ما برحت تقتات على الإنفاق والدعم الحكومي. ومن هنا كان من غير المعقول أن يكون الاهتمام بقرارات منظمات الأعمال وهي جزئيات في المنظومة الاقتصادية والتفاني في تحقيقها على حساب الكليات والإطار العام والتي تمثلها السياسات العامة.
ومن العجب أن مسوقي تخصص إدارة الإعمال لا يكتفون بالترويج لبرامجها وعرضها على أنها العصا السحرية التي سترتقي بمستوى الاقتصاد الوطني وتجعله أكثر تنافسية، وإنما يبذلون جهدا كبيرا وفي كل اتجاه في إقناع المسؤولين والمهتمين بإلغاء تخصص الإدارة العامة والتقليل من شأنه، مع أنه من المفترض أن يكون العكس تماما لو تدبروا الأمر بموضوعية وفهموا الواقع وتعلموا من تجارب الدول الأكثر تقدما وتحضرا وحرية اقتصادية لعلموا علم اليقين أن إدارة الأعمال لن تنجح دون إدارة عامة تعمل بكفاءة وفاعلية وتقوم بأداء عالٍ. الغريب أن من يدعو إلى إلغاء تخصص الإدارة العامة جلهم يعملون في جامعات حكومية ويخوضون في كل يوم تجربة جديدة في العمل الحكومي، كان من الأجدر أن يستفيدوا من هذه التجارب ويكونوا أكثر فهما واستيعابا في أن إدارة المنظمات العامة تختلف عن المنظمات الهادفة للربحية. وأنه ليس بالإمكان تطويع العمل في المنظمات الحكومية للعمل بالأسلوب ذاته في المنظمات الخاصة؛ لأن البواعث والأهداف تختلف فلو لم تكن تختلف لما كان لدينا قطاع حكومي ابتداء. هناك اختلاف بين صناعة وتنفيذ القرار العام والقرار الخاص.
فالقرار العام بطبيعته الشمولية والمعقدة والمتشعبة يتداخل في صناعته العديد من الأطراف وتتفاوت فيه الآراء وتختلف الأذواق والتوجهات، وبالتالي يسعى لإيجاد نوع من التوافق وليس بالضرورة تحقيق الرضا التام والكفاءة والفاعلية بصورتها الكاملة. ولذا كان من الخطأ والإجحاف الاعتماد على معيار الكفاءة والفاعلية فقط في المقارنة بينه وبين القطاع الخاص. كما أن العلاقة بين التكاليف والخدمات التي تقدمها الأجهزة الحكومية غير واضحة، كما في حالة الاستهلاك الخاص، فحين يدفع المستهلك سعر السلعة يتحصل على المنفعة والرضا مباشرة. عدم الوضوح في العلاقة بين التكاليف والمنافع العامة يجعل العموم يتصورون أن الخدمات العامة غير مجدية، وبالتالي ينعتون القطاع الحكومي بالسلبية على غير وجه حق.
إن أحد أسباب نشأة تخصص الإدارة العامة هو الحاجة إلى ضبط السوق والمتعاملين فيه والحد من جشعهم؛ حتى لا تطغى المصالح الخاصة على المصلحة العامة، كما أن القطاع الخاص يعجز عن توفير الخدمات العامة والبنى التحتية. هذا إضافة إلى توجيه الاقتصاد وتحفيزه للنمو. ما يلزم الالتفات إليه هو التمييز بين صناعة القرار وتنفيذه؛ لأنه ربما اختلط الأمر على البعض ليقول إن هناك خدمات عامة مثل رصف الطرق وجمع النفايات وغيرها يقوم بتنفيذها القطاع الخاص، وبالتالي يظنون أن القطاع الخاص قادر على القيام بما تقوم به الحكومة، وهذا أبعد ما يكون عن الصحة. فطبيعة الخدمات والسلع العامة مشاعة ولا يمكن استثناء أحد من الاستفادة منها، ولا يمكن تجزئتها كالطريق العام، وهذا هو السر وراء فشل القطاع الخاص في توفيرها، فهي تتطلب شراءً واستهلاكا جماعيا، أي عن طريق القرار الحكومي. إن عدم إدراك هذه الحقيقة يعد بلا شك قصورا معرفيا ومهنيا وضيق أفق وعجزا في فهم الواقع الإداري والتنموي والدور الكبير الذي يلعبه القطاع الحكومي في الاقتصاد الوطني، بل أذهب إلى أبعد من ذلك لأقول إنه لا يوجد في حقيقة الأمر قطاع خاص في السعودية أو على أقل تقدير قطاع خاص ناضج ومكتمل ومنتج. فإذا كان جوهر وتميز القطاع الخاص في المبادرة والإبداع والابتكار وتحمل المخاطرة في صنع القرار وإنشاء المشروعات والمساهمة في نمو الاقتصاد ودعم الدولة، فهذا بكل تأكيد لا ينطبق على معظم المؤسسات في القطاع الخاص. فالمبادرات والأفكار والتمويل والمشاريع في معظمها تقوم بها الحكومة ويظل القطاع الخاص يعمل في ظل الإنفاق الحكومي يتفيأ ظلاله ويقتات عليه دون عناء ومشقة بحصانة كاملة. وبنظرة فاحصة ومحايدة وواقعية للاقتصاد الوطني نجد أن هناك قطاعا حكوميا مباشرا وقطاعا حكوميا غير مباشر يسمى القطاع الخاص. فمن دون الدعم والمساندة والحماية الحكومية لا تستطيع معظم المؤسسات الخاصة صناعة القرار والقيام بمهام الإنتاج تمويلا وتسويقا. إن إخفاق القطاع الخاص وفشله الذريع في استيعاب العمالة الوطنية والاستفادة من رأس المال البشري لهو دليل قاطع على إسهامه الضعيف ودوره المحدود في التنمية الاقتصادية.
إن الذين ينادون بإقفال أقسام الإدارة العامة ومن يستمع إليهم من أصحاب القرار يرتكبون خطيئة وطنية كبيرة تصل حتى تهديد الأمن الوطني. فهم يحجبون الصورة الكبيرة الأصعب إدراكا، ويغروننا بالجزئيات الأسهل فهما واستيعابا. وهذا هو الخطأ الذي وقعت فيه الدول المجاورة فما تشهده من اضطرابات سببه الرئيس إخفاق الجهاز الحكومي في استيعاب المتغيرات والاستجابة إلى احتياجات وتطلعات مواطنيهم، حتى الأزمة المالية العالمية التي ما زلنا نحس تبعاتها سببها إخفاق الأنظمة والسياسات الحكومية، ولولا وجود كليات للإدارة المحلية لما استطاعت الولايات المتحدة وغيرها من الدول التخفيف من آثارها. هناك ضرورة ملحة وعاجلة لإنشاء كليات للدراسات الحكومية تقوم بتحليل السياسات واستشفاف الرأي العام وتطوير المنظمات والإجراءات الحكومية وتسهم في قياس الأداء الحكومي واستشراف المستقبل. أهمية الإدارة العامة كتخصص بأهمية دور الحكومة في المجتمع، وإذا لم تكن المعارف والمهارات والمعايير المهنية تطبق في الأجهزة الحكومية فهذا إخفاق في الممارسة وليس قصورا في التخصص. تخصص إدارة الأعمال معني بالجزء والإدارة العامة بعنية بالكل، فمن تكون له الأولوية؟! المنطق والواقع والحاجة تقول: تخصص الإدارة العامة أولا.. ثم إدارة الأعمال.