كيف سيواجه مجلس التعاون الخليجي الإفرازات الاقتصادية للربيع العربي؟
منذ شهر أغسطس من عام 2007 والعالم، خصوصاً الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، يعاني أزمة الرهن العقاري أو ما سُمي وقتها "الديون غير الجيدة" التي تفجرت في الولايات المتحدة بعد إفلاس بنك ليمان براذرز في سبتمبر 2008. وبعدما بدأت اقتصاديات هذه الدول بالانتعاش في عام 2010. برزت في الربع الأخير من ذلك العام أزمة الديون السيادية خصوصاً السندات الحكومية لدول منطقة اليورو ولا شك أن هناك علاقة مباشرة بين الأزمتين فأثناء أزمة الرهن العقاري اضطرت الحكومات إلى شراء بعض أصول البنوك لكي توفر لها السيولة اللازمة لتحريك الاقتصاد ولكي تحول دون إفلاسها. وقد لجأت هذه الحكومات إلى إصدار السندات لتمويل هذه العملية مما زاد من مديونيتها إلى الحدود التي أدت إلى عجز هذه الحكومات عن الوفاء بالتزاماتها فبرزت أزمة الديون السيادية الحالية. ورغم الحلول المتدرجة التي وضعت للتعامل مع هذه الأزمة الجديدة إلا أن ذيولها ستستمر لثلاث سنوات قادمة على أقل تقدير.
وتزامن مع هاتين الأزمتين الاقتصاديتين تغير شبه هيكلي في قطاع الطاقة تمثل في تطور التكنولوجيا بحيث أصبح استخراج كل من البترول الصخري والغاز الصخري مجديا اقتصادياً مما فتح آفاقاً جديدة للتنويع الجغرافي لمصادر الطاقة الأحفورية ومجالات استثمار جديدة للشركات المتخصصة، وقد تتمكن بعض الدول المستهلكة الرئيسية من الوصول إلى الاكتفاء الذاتي من أحد هذين المكونين الرئيسيين.
وبدءاً من الشهر الأول من هذا العام انطلق حراك سياسي غير مسبوق في عدد من الدول العربية (سماه البعض الربيع العربي) كانت له آثار اقتصادية سلبية على المنطقة أقله في المدى القصير. وراوحت تقديرات الخسائر المباشرة حتى تاريخه بين 32 و55 بليون دولار إلا أنني أرى أنها أكبر من ذلك بكثير بحيث تصل إلى ضعف التقدير الأكبر، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار ما تعرض له الغاز المصري وكل من البترول الليبي واليمني والسوري من إرباكات، وما واجهته تحويلات العمالة في ليبيا من توقف، وما تعرضت له أسواق الأسهم في دول الربيع العربي من انخفاض في قيمتها السوقية، ناهيك عن انخفاض السياحة والصادرات الأخرى من تلك الدول. يضاف إلى كل ذلك ما يزيد على عشرة آلاف من القتلى وما تعرضت له الهياكل الأساسية والوحدات الإنتاجية والخدمية من تخريب.
ودون التظاهر بمعرفة ما قد يفرزه هذا الحراك السياسي من أنظمة وطنية جديدة ومن إعادة للنظر في الترتيبات الإقليمية الحالية، يمكن القول إن العوامل الإيجابية لهذا الحراك تفوق كثيراً أية آثار سلبية مؤقتة قد تنتج عنه. فكسر حاجز الخوف لدى المواطن، وتحقيق العدالة والمساواة أمام القانون، ووجود رقابة شعبية فعالة على عمل أجهزة الدولة، ومشاركة المواطن في رسم مستقبله ومستقبل أولاده وترسية دعائم الحكم الرشيد، والقضاء على آلة القمع في الدول التي كانت ميداناً لهذا الحراك كلها عوامل تستحق ما قد بذل ويبذل من تضحيات.
سأتناول فيما يلي التأثير الاقتصادي للحراك السياسي الأخير في دول مجلس التعاون في ضوء الأزمات الاقتصادية الحالية، مختتماً ذلك بعدد من الاستنتاجات والتوجيهات.
مجلس التعاون
نسمع بين الحين والآخر أن دول مجلس التعاون لم تتأثر كثيراً بالأزمات الاقتصادية العالمية الحالية وأنها في منأى عن التأثيرات الاقتصادية السلبية للحراك السياسي الحالي الذي تمر به المنطقة. إلا أنه يبدو أن ذلك من باب التمني غير المسنود بالحقائق. ففي دراسة معمقة لهذا الجانب أجراها فريق متخصص في معهد أكسفورد لدراسات الطاقة أشار المعهد إلى أن الطاقة الإنتاجية الفائضة للبترول حالياً على مستوى العالم لا توجد إلا في ثلاث دول من دول مجلس التعاون هي المملكة العربية السعودية والكويت وإمارة أبوظبي. وهذا يعني أنه لو حصل انقطاع في إمدادات البترول من أي مكان في العالم كما حصل في ليبيا مؤخراً فإنه لا يمكن تعويضه إلا من هذه المناطق. كما أشارت تلك الدراسة إلى أن 50 في المائة من مجموع الغاز المسال في العالم تنتجه الدول العربية. كل ذلك يعطي هذه الدول ميزة تفاوضية جيدة ودورا مؤثرا في صنع القرارات الاقتصادية الدولية. لكنه في الوقت نفسه يرتب عليها التزامات وطنية وإقليمية ودولية، مثال ذلك:
1 – التزمت دول مجلس التعاون ببرامج تحفيزية وطنية لدعم نمو الاقتصاد العالمي بعد أزمة الرهن العقاري وصل مجموعها في حالة المملكة العربية السعودية إلى 400 بليون دولار على مدى خمس سنوات اعتباراً من عام 2009 وذلك في إطار مجموعة العشرين.
2 – أدى الحراك السياسي إلى مبادرات دول المجلس بزيادة مرتبات الموظفين وتقديم امتيازات أخرى للمواطنين كتعويضات بدل البطالة وتوفير مزيد من المساكن والفصول الدراسية في المدارس والجامعات ... إلخ وصلت في حالة المملكة العربية السعودية إلى ما يقارب 133 بليون دولار.
3 – تضامناً مع الدول الشقيقة الأخرى، خصصت أربع دول من دول المجلس مبالغ لكل من البحرين وعُمان والأردن والمغرب ومصر وتونس، مبالغ وصلت في مجموعها إلى ما يفوق 37 بليون دولار.
4 – هناك مبالغ أخرى التزمت بها دول المجلس تجاه الدول العربية التي تأثرت مباشرة بالحراك السياسي الراهن وذلك في إطار اجتماع دوفيل الذي عقد برعاية من مجموعة الدول الثماني الصناعية وبمبادرة من الحكومة الفرنسية.
إن هذه الالتزامات الكبيرة خارج الميزانيات السنوية سيكون لها تبعات سلبية خصوصاً على دول المجلس منها على سبيل المثال:
أ – أن الدول المنتجة للبترول ستكون أقل مرونة حول السعر المستهدف لبرميل البترول مما قد يؤدي إلى المطالبة بأسعار أعلى بما يؤثر سلباً في النمو الاقتصادي العالمي وفي مستوى الطلب على البترول مستقبلاً ويستعدي الدول المستهلكة، كما يجعل الوقود الصخري أكثر جاذبية وقدرة على منافسة الوقود التي تصدره الدول العربية ومنها دول المجلس.
ب – إن الجو العام الذي أوجده الحراك السياسي الحالي سيدفع الحكومات إلى تأجيل التفكير في إعادة النظر في الأسعار المحلية للطاقة ( بترول / غاز / كهرباء) وهذا بدوره سيؤدي إلى استمرار التشوهات السعرية الحالية ويزيد بالتالي معدلات نمو الاستهلاك المحلي للطاقة التي وصلت حالياً في المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، إلى ثلث ما تنتجه من البترول.
ج – ستقل المبالغ المخصصة للاستثمار بما في ذلك الاستثمار الموجه لزيادة الطاقة الإنتاجية وتطوير وصيانة الحقول المنتجة.
د – يضاف إلى ذلك الخسائر الاستثمارية التي تكبدتها الاستثمارات العامة والخاصة لمجلس التعاون داخل الدول التي شهدت هذا الحراك السياسي وما لذلك من ذيول طالت الأسواق المالية في دول مجلس التعاون وما أفرزه هذا الحراك من آثار سلبية في الاستثمارات العربية البينية أقله في الأجل القصير.
الاستنتاجات والتوصيات
1 – إن الحراك السياسي في الدول المجاورة ينبغي ألا يثني دول المجلس عن المراجعة المستمرة لسياساتها الاقتصادية بهدف تحسينها وجعلها أكثر ملاءمة لاحتياجات المواطن ولتحقيق أفضل الأداء.
لذا ينبغي مراجعة عمليات الدعم الحالية بما في ذلك أسعار المحروقات والكهرباء مع توجيه أي فائض جراء هذه المراجعة إلى الفئات المحتاجة من المواطنين مباشرة. فقد أثبتت الدراسات أن أكثر من يستفيد من الأسعار المشوهة الحالية للطاقة هم ذوو الدخول العالية.
2 – حتى يؤتي الحراك السياسي ثماره لا بد أن يصاحبه استقرار اقتصادي. والقطاع الخاص المحلي والدولي لا يبدو أنه مستعد للدخول في استثمارات جديدة حتى ينجلي الموقف وتستبدل الحكومات الانتقالية بحكومات منتخبة.
لذا فإن قيادة الاقتصاد في هذه الدول ستعتمد على الحكومات التي ستحتاج بدورها إلى مصادر تمويل إقليمية ودولية يقدرها صندوق النقد الدولي بـ 50 مليون دولار في عام 2012 وحده. وقد أدت الظروف السياسية الراهنة إلى أن تتسنم دول مجلس التعاون قيادة العمل العربي المشترك.
وعليه فإن دول الربيع العربي تتوقع من دول المجلس المزيد من الدعم الاقتصادي. لذا فإن دول المجلس مدعوة إلى مراجعة آلية العمل الاقتصادي العربي المشترك في إطار جامعة الدول العربية لجعله أكثر فاعلية بما في ذلك:
أ – إن أحد أهم أدوات التنمية الاقتصادية العربية هي تطوير التجارة العربية البينية، لذا ينبغي حل جميع المشكلات العالقة لكي تؤتي منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى ثمارها، فإذا كانت العقبات الحالية يصعب حلها يمكن حينئذ التفكير في اتفاقيات للتجارة الحرة بين دول المجلس مجتمعة وكل دولة عربية على حدة أسوة بما حصل مع بعض الدول والمجموعات الدولية الأخرى (سنغافورة، منظمة الأفتا ... إلخ)
ب – تقديم المزيد من تسهيل تنقل العمالة العربية إلى دول المجلس وإزالة أية قيود لا تزال قائمة أمام الاستثمارات العربية في دول المجلس حتى لا تذهب هذه الاستثمارات إلى الدول الأجنبية في ظل ضبابية الأوضاع القانونية والأمنية والسياسية في الدول التي شهدت هذا الحراك السياسي.
ج – إعادة هيكلة مؤسسات العمل الاقتصادي المشترك بما في ذلك النظر في إمكانية دمجها ومراجعة أهداف كل منها لجعلها أكثر شمولية ومرونة وزيادة كفاءتها الإدارية ووضع حدود زمنية لبقاء الرؤساء التنفيذيين على رأس هذه المؤسسات.
إن تفعيل هذه المؤسسات ضروري في الوقت الحاضر قبل أي وقت مضى حتى تستطيع تحمل جزء من الأعباء المالية التي أوجدتها الظروف السياسية الحالية.
اقتصادي سعودي