أوائل التنظيمات العمالية في الإسلام
اهتم الإسلام بالطبقة العاملة، ولنا في نص، يُقال إنه للخليفة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لعامله على مصر، توصيف يُبيّن هذا الاهتمام، جاء في مطلعه: "وأعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غِنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله (الجيش)، ومنها كُتَّاب العامة والخاصة (الموظفون) ومنها قُضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق (الحسبة)، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة". كذلك، إذا ألقينا نظرة حول أوائل التنظيمات العمالية فسنجد أنها ضمت جميع الصناع والحرفيين بغض النظر عن الانتماءات العرقية أو الدينية أو الطائفية.
وبشكل عام، برزت العديد من الحركات الفكرية في التاريخ العربي والإسلامي التي تقدِّر العمل وتحترمه، وأخذت تنشأ طوائف الحرف وجماعات المهن، وتتوزع وسط المدن التي شيدت بطرق هندسية اعتمدت نظام توزيع الحرف والمهن، حسب أسواقها التجارية، وعلى سبيل المثال نلاحظ انتشار الأسواق التجارية في قلب المدن الإسلامية، ثم تأتي من حولها مخازن البضائع، بعد ذلك تأتي أماكن السكن والفنادق والحمامات، وحولها تتوزع مناطق المهن والحرف كالحدادين والنحاسين والزجاجين وغير ذلك.. وأخيرًا تأتي البيوت السكنية، ومن حولها الأسوار.. وقد بني هذا التوزيع وفق نظام عسكري مُحكم، حيث الثروة في وسط المدن وتحيط بها حلقات التوزيعات المهنية الحرفية والبيوت والأسوار.
هذه الحياة المهنية والحرفية في المدن العربية والإسلامية أنتجت أشكالاً من العلاقات، توزعت بين النقابات والروابط والطوائف المهنية والحرفية، وأخذت في بدايتها الأولى تتشابه بالتنظيمات الصوفية لاعتمادها المراتب في التوزيعات الاجتماعية، ومنها النقيب والشيخ والأخ (من: الأخية)، وفي مراحلها المتقدمة زادت في مراتبها: الأستاذ والصانع والصبي والولد.. إلخ، وبناءً على ذلك اختارت هذه النقابات والروابط شخصيات التصوف الإسلامي، ليكونوا دائمًا شيوخ مشايخهم ونقبائهم مثل: الصحابي أبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وعبد الله بن العباس، وعمر بن أمية، وأبو الدرداء وغيرهم..
وكانت هذه النقابات عبارة عن تجمعات حرفية ومهنية وصناعية ينتسب إليها الصنَّاع، ومن يعمل في الحرفة الواحدة أو عدد من الحرف القريبة من بعضها، وكان لكل نقابة إدارتها وشيوخها المنتخَبين ودساتيرها، ومن وظيفتها مساعدة أعضائها، والحفاظ على المهنة وأسرارها وتطويرها، وتنظيم إنتاجها ودقة صناعتها وتقدير أسعارها والأجور وأيام العمل وأوقاته. وقد تأثرت هذه النقابات في الدولة الإسلامية بالنقابات البيزنطية من حيث سعة تنظيماتها وكثرة عددها وفعالياتها وسن القوانين التي أترفت بنقابات الحرفيين والصناع، وعرف منها نقابات الخبازين وصناع النسيج والسباكين وغيرهم، وكما للنقابات البيزنطية، كان للنقابات العربية والإسلامية أحياء خاصة بها، وكانت لكل حرفة أسواق خاصة لبيع منتجاتها، وعرف أن لتلك النقابات تنظيمًا متدرجًا، حيث كان رئيس النقابة ومعاونوه، وكان من مهامها رعاية المصالح الاقتصادية لأعضائها واحترام التخصص في الحرفة، واحتكار الأسواق حسب تصنيفاتها المهنية أو الحرفية، وضبط الأجور ومكافحة الغش والعناية بالموازين والمكاييل، وعملت على إحياء المناسبات والأعياد وتقديم المساعدة لأعضائها ورعاية المرضى والمصابين والأيتام والأرامل، وتميز بعضها بامتلاك دور تبني الأيتام وتعليمهم وتزويجهم، وكانت حاضرة في حالات الوفاة والتشييع والاهتمام بأسر المتوفى من الأعضاء وغيرهم.
هذه بعض شذرات من الاهتمام والتصنيف لتنظيمات القوى العاملة في العالم الإسلامي، ودورها ومؤسساتها في بناء المجتمعات والحضارات.. وذلك، قبل نشأة منظمة العمل الدولية بما يقارب ثلاثة عشر قرنًا!