هل الصحفي موظف؟
هناك سؤال جوهري يتعلق بعلاقة الصحفي على وجه التحديد مع مهنته، فهل هو صحفي يعمل وفق فلسفته الشخصية وأدواته المهنية وأخلاقياته الإنسانية؟ أم هو موظف يخضع لرؤية المؤسسة التجارية والأنظمة الإدارية والقوانين الرسمية؟
هذا السؤال الذي يقوم بالتفريق بين الصحفي كمهني وعنصر فاعل في التغيير والرقابة الاجتماعية وبين كونه موظفا يعمل من أجل الحصول في نهاية الشهر على راتبه ومميزاته السكنية والصحية والتقاعدية يكمن حوله الخلط وربما سوء الفهم حول الدور الحقيقي للصحفي في المجتمع وأهمية ما يقوم به كمراقب مستقل من أي تأثيرات مؤسساتية ونظامية لا تعترف بالحيادية كأساس عملي.
إذن هل يمكن للصحفي أن يقوم بأداء عمله في مراقبة الأداء العام لمؤسسات الدولة وتسليط الضوء على مواطن الضعف والترهل، وفي الوقت ذاته يخضع لنظم تختلط فيها المصلحة التجارية مع السياسية مع تعقيدات القوى الاجتماعية، خصوصا ونحن نشاهد تزايد قوى الإعلام المستقل الذي تشكل عبر اعتماده على منصات لا تعترف بالمكان ولا بالأنظمة وعابرة للحدود وقادمة من فضاء إلكتروني شاسع وليس له بداية ولا نعلم أين ينتهي؟
هذا الأسئلة تنطبق كذلك على الفنان والكاتب وهي مهن إن صح التعبير ترتكز على القدرة الإبداعية في خلق المنتج والتي لا تحدها قدرة جسمانية زائلة كما لدى الرياضيين أو على المقدرة في حل الإشكاليات الإدارية كما لدى الموظفين الرسميين، فالصحفي كلما طال عمره في هذه المهنة يصبح أكثر تحكما وقدرة على إحداث الفرق في مجتمعه، وكلما تعمق في تعقيدات المهنة أصبح أكثر قدرة على الخروج وتجاوز التحديات التي تمليها عليه طبيعة المهنة والتي تتنوع ما بين حدود الرقابة وسطوة قوى المال وهيمنة السياسة بكل توازناتها و تعقيداتها.
منذ بضعة أعوام سألت زملاء صحفيين السؤال المحوري بشكل مباشر وقلت: (هل أنت صحفي أم موظف؟) وكان الرد خليط ما بين التلعثم والادعاء والتعبير اللغوي الذي يبرز قدرة ذلك الصحفي، وذاك في استخدام لغة عربية جميلة العبارات، ولكن عاجزة عن تقديم إجابة رغم الإجابات.
هل الصحفي يتقاعد؟ وهل الصحفي يمكن أن يصبح تاجرا؟ وهل يجوز أن يكون الصحفي من أصحاب الأموال والعقارات؟ وهل يمكن للصحفي الشريف أن يسعد بحياة كريمة، حيث يحترمه المسؤول ولا يعاديه؟ وهل سيصبح الصحفي المهني عنصرا مستقلا فاعلا في عملية الحراك والتحريك الاجتماعي والسياسي في دولته و إن غاب فيها التشريع الإعلامي الواضح و القانون المحاسبي الذي لا يقبل التأويل وفق متغيرات الزمان والظروف؟
في أمريكا على سبيل المثال يعد لاري كينج قبل قراره بـ ''التقاعد'' أحد أكثر الإعلاميين الأمريكيين ثراء تماما كما بيتر جانينقز وباربرا ولترز وأوبرا وينفري التي قررت تقاعد برنامجها ذائع الصيت بعد قرابة الـ 25 عاما، وهي أسماء كانت وستبقى في التاريخ الإعلامي الأمريكي من أهم الأسماء و أكثرها تأثيرا.
إذن إن كان كينج وأوبرا وغيرهما تقاعدوا، فهل ذلك يعني أنهم موظفون وصلوا لسن تحتم عليهم ترك المكان لمن يصغرهم؟ وهل ذلك يعني أنهم لم يكونوا صحفيين مستقلين بل موظفين يتبعون مؤسسات لها أجنداتها التي هم مجبرون على التعاطي معها والخضوع لها؟
يبدو أن العلاقة بين الصحفي والوظيفة أعقد من أن يتم الفصل أو الجزم حولها، وهي علاقة يشوبها التشكك من جهة والفهم الملتبس حول طبيعة عمله من جهة أخرى، فالصحفي الذي يعمل فقط من أجل التغيير والتأثير قد يتهمه البعض أنه عميل وتابع لـ (ويكيليكس) في حين قد يتهم البعض الصحفي الذي يعمل في مؤسسة تجارية أنه مجرد أداة في يد صاحب المال أو السلطة، وفي الحالتين يبقى غير واضح التوجهات وغير مرضي عنه، ولكن أليس كون عدم الوضوح في خلفيات الصحفي في حد ذاتها هو ما يجعله كما يقول البعض ''مستقلا''؟