النفط الأبيض.. والشبكات الاجتماعية

أعيش ــــ دارساً ــــ في مدينة تسمى كاردف عاصمة مقاطعة ويلز في المملكة المتحدة وهي مقاطعة كانت غنية بالفحم الحجري ومن أكبر المصدرين له عالمياً في أوائل القرن الماضي عندما كان الفحم الحجري مصدراً مهماً للطاقة. لقد كانت هذه المقاطعة يوماً ما كإحدى دول الخليج العربي حالياً السابحة على أنهار البترول الأسود والمتربعة على قمم مصدريه. لكنك عندما تتأمل في ملامح المدينة الآن لا تجد إلا تاريخ ثراء وأطلال ثروة, فمعظم الناس هنا من الطبقة الوسطى تترصد لهم الحكومة بالضرائب عند كل منتج وأمام كل خدمة.
إنها سنة الله: كل شيء عرضة للتغيير وقابل للزوال إلا هو سبحانه وتعالى وما أراد.
تؤكد الأصوات الاقتصادية المتكررة ضرورة أن تستثمر حكومات دول الخليج العربي طفرات البترول بما يضمن تكون رأسمال اقتصادي متنوع ومتين، لكن هذه المقالة تحاول أن تذهب إلى ما هو أبعد من الدائرة الاقتصادية وتلفت اهتمام متخذي القرار والمهتمين بالتنمية إلى ضرورة أن تستثمر سنوات الطفرة النفطية في بناء رأسمال اجتماعي، وهو عامل لا يقل أهمية من رأس المال الاقتصادي في مسيرة التنمية والتطوير ورفاه المجتمعات.
يشير مفهوم رأس المال الاجتماعي إلى شبكات العلاقات الاجتماعية المنظمة بين أفراد ومؤسسات المجتمع الواحد ومن ثمرات الاهتمام به أنه يشيع روح العمل الجماعي ويعزز الاندماج بين مكونات المجتمع ويزرع الثقة بين أطيافه مما يحقق ترابطاً اجتماعياًَ يضيف للدول مزيداً من الاستقرار والنمو. ورأس المال الاجتماعي ينمو وينخفض كما هو حال رأس المال الاقتصادي بحسب الموارد والجهود المبذولة في استثماره. ويمكن قياس قيمة رأس المال الاجتماعي بمؤشرات مثل عدد المنظمات الأهلية من جمعيات خيرية ووقفية وتطوعية وغيرها وعدد العاملين فيها وكفاءة برامجها وأنشطتها.
والمتأمل للنسيج المجتمعي لشعوب دول الخليج العربي يدرك أثر القبيلة والمنطقة والمذهب في بناء حواجز اجتماعية قد تعوق من تكون حالة الانسجام والترابط. وهذا ما يعزز ضرورة إيجاد منظومة علاقات مجتمعية بينية تعمل على إذابة هذه الحواجز وتجاوز هذا النوع من الفواصل. هذا إضافة إلى أن رأس المال الاجتماعي الغني يسند الدول ويساند المجتمعات عندما تبدأ آبار النفط بالجفاف ــــ لا سمح الله ــــ وتنكمش رؤوس الأموال الاقتصادية.
ودور الحكومات هنا محوري لأنها القادرة على إصدار الأنظمة وسن القوانين لتكوين بيئة محفزة لتفعيل دور الفرد في الخدمة العامة، وتعبئة الأموال والثروات للأغراض الخيرية والتنموية بما يحقق التنمية والرفاهية والعدالة الاجتماعية. والفرصة تبدو سانحة أكثر من أي وقت مضى لتوجه حكومات الدول الخليجية فرصة عائدات النفط الأسود المتوافرة في حساباتها وحسابات بعض مجتمعاتها لتشييد شبكات اجتماعية بيضاء بين مكونات شعوبها لا يعركها لون طائفي أو قبلي أو مناطقي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي