المؤسسة الحكومية والتكالب عليها
لم أر وضعا أسوأ للمؤسسة الحكومية مما أراه اليوم، وذلك بتكالب الجميع عليها سواء من داخلها أو خارجها، فعلى سبيل المثال نجد أن كل الظروف الحالية لا تساعد على الاستقرار والعطاء الوظيفي بالشكل المريح، فالمؤسسة من داخلها تواجه العديد من الظروف المالية والإدارية التي لا ترقى لما يصبو إليه كل محب لهذا الوطن، فجميع الموظفين وخصوصاً من يخافون الله لا يجدون في العمل الحكومي أي حافز أو دافع للعطاء أو الإنجاز أو التطوير بالنسبة العظمى، فهم يشتكون من تأخر ترقياتهم حتى وصلت سنوات التأخير إلى أرقام لا يقبلها العقل أو المنطق، يقابلها في الوجه الآخر انخفاض في مستوى الرواتب مع زيادة في حجم العمل وهجوم من كل الأطراف من داخل المؤسسة الحكومية بأجهزتها الرقابية أو من خارجها من مؤسسات المجتمع المدني والهيئات العامة.
إن الوقفة المتأنية الصادقة الناصحة الشفافة يجب أن تقرأ الأمر بشكل واضح وصريح ولعلي في هذا المقال المختصر أضع بعض النقاط على بعض الحروف وأعرج على بعض الهموم التي نراها ونسمعها ممن نتوخى فيهم الخير لخدمة هذه المؤسسة المهمة في كيان الدولة، ومن تلك الهموم التي يجب الوقوف عليها ما يلي:
أولاً: تأخر ترقية العديد من الموظفين وبقاء العديد منهم على مراتبهم لفترات زمنية تحسب بالسنوات الكثيرة، حتى أن بعض الموظفين يمضي أكثر من 30 عاما في مرتبتين أو ثلاث ومن المراتب الدنيا وهو يستحق أكثر من ذلك، سواء مؤهله العلمي أو خبرته التي بناها خلال عمله مع شهادة الجميع له بحسن العمل، هذا التأخير في الترقية يحرم الموظف من حقوق له شرعية لم يراعها النظام وتلاطم مواده وكثرة إجراءاته ومراسلاته، حيث يقف الموظف حائرا في القدرة على العطاء والإنجاز والتطوير وخدمة المؤسسة بالشكل اللائق، وهذا الأمر يتطلب وضع آلية ميكانيكية تضمن لمن يستحق الترقية أن يترقى، وألا يقف سقف راتبه عند حد معين لا يستطيع مع هذا الحد المعين تحقيق أبسط متطلبات الحياة.
ثانياً: مع التأخير في الترقية يواجه العديد من الموظفين الحكوميين - إن لم يكن كلهم المتأخر في الترقية وغير المتأخر - ضعفا في السلم المالي للرواتب مقارنة ببقية قطاعات الدولة وهيئاتها، فالموظف الحكومي المرتبط بنظام الخدمة المدنية هو الأقل بين قرنائه في مختلف مؤسسات الدولة وهيئاتها من حيث الرواتب سواء القطاع الخاص أو القطاع الأكاديمي أو الإعلامي أو حتى مؤسسات المجتمع المدني، مع ما يواجهه من حجم عمل ومسؤولية أداء وحقوق للآخرين تتطلب المزيد من العمل والجهد والإخلاص، خصوصاً مع الزيادة السكانية العالية وارتفاع وتنوع مشاكل المواطن والمقيم، ولهذا فإن الأمر يتطلب إعادة النظر بشكل جاد وقوي في السلم المالي لموظفي الحكومة ممن هم على نظام وسلم الخدمة المدنية.
ثالثاً: مع تأخر الترقيات وقلة الرواتب التي تدفعها أغلب وأهم المؤسسات أو الأجهزة الحكومية، خصوصاً الجهات التي يتطلب عملها العمل اليومي والمباشر مع الجمهور، لا تسلم تلك المؤسسات والجهات من النقد اللاذع والاتهام المباشر من مختلف وسائل الإعلام بالتقصير والفساد والتخاذل، وأصبح العمل في مثل هذه الأجهزة الحكومية نوعا من التهمة السيئة التي لا تشرف العمل فيها، وهو ما دفع ويدفع العديد من الكفاءات المتميزة لمغادرة هذا الجهاز.
رابعاً: ومما زاد الأمر سوءاً ومع تكالب الجميع على المؤسسة الحكومية، جاءت هيئة مكافحة الفساد لتوجه كل جهودها ضد المؤسسة الحكومية من خلال العديد من الإعلانات التجارية في الصحف لتؤكد على أن الفساد حقيقة قوية وصادقة في كل المؤسسات الحكومية، حتى أنها اعتبرت شكر أي مسؤول أو موظف حكومي هو نوع من الفساد، وأمام كل ذلك وغيره كثير لا يتسع له ولا يسمح به المقال والمقام، أصبح هناك تدهور واضح وصريح في أعمال أغلب المؤسسات الحكومية وأصبح عملها عبارة عن فعل وردة فعل وإفادة وعدم إفادة دون إنهاء المواضيع والقضايا وحقوق الناس، والأخطر من ذلك كله عزوف العديد من المسؤولين عن اتخاذ أي قرار مخافة المساءلة أو الاتهام بالتقصير أو الفساد، وأصبح العنوان الرئيس لكثير من الحقوق والمشروعات وغيرها هو عدم الموافقة حتى لا يتحمل المسؤول صغر أو كبر مسؤولية اتخاذ القرار، والشواهد في هذا الأمر أكثر من أن تحصى وتعد، ولو التفت كل مسؤول حوله لوجد العجب العجاب من تلك الممارسات التي تقود السفينة نحو بحر لجي - حمانا الله منه.
إن الوقفة الصادقة الناصحة الثاقبة تتطلب دراسة هذا الأمر بشكل جدي، حيث يعاد النظر في حقوق الموظفين وامتيازاتهم وحماية سمعتهم وعدم تعزيز الاعتقاد بأن المؤسسة الحكومية هي فقط التي يوجد فيها الفساد أو التي يجب أن توجه كل السهام نحوها، وإنما يجب مراجعة كل قطاعات الدولة وعلى رأسها الإعلام الذي أكتب لكم من خلاله، لأن اتزان وتكامل قطاعات الدولة الأساسية الخمسة، القطاع الحكومي والخاص والأكاديمي والإعلامي والمجتمع المدني وعملهم ضمن منظومة واحدة هو الطريق بعد توفيق الله للنجاح والتطوير وتحقيق التنمية المستدامة. واسمحوا لي بالعودة مرة أخرى لإيضاح بعض المقترحات والحلول التي ربما تعين على التطوير والتغيير نحو الأفضل، وفق الله الجهود التي تعمل من أجل وطن سعودي الانتماء، عربي اللسان، إسلامي المعتقد وعالمي الطموح.
وقفة تأمل:
''لا تأمن الموت في طرف وفي نفس
ولو تمنعت بالحجاب والحرس
فما تزال سهام الموت نافذة
في جنب مدرع منا ومترس
ما بال دينك ترضى أن تدنسه
وثوبك الدهر مغسول من الدنس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس''