العودة إلى قريتي
قضيت طفولتي في المدينة، لكن أجمل الأيام كانت تلك التي أعود فيها لقريتي الجميلة. عدد بيوتها لا يتجاوز العشرين، كان يخترقها جدول يجري طول العام. في الصباح الباكر كان الرعاة يأتون ليسقوا مواشيهم من ذلك الجدول الجميل وبعد سويعات تأتي الأبقار لتشرب من مائه. كنا نتسلى بالسباحة في ذلك الجدول الذي كان كالنهر في هذه القرية. على جنباته يجتمع الأطفال، وتعيش على مياهه قرية بمزارعها ومواشيها. كان الجدول أجمل ما يكون بعد هطول المطر، حيث تسمع لمياهه هديرا وتزداد صفاء لتبرز الحصيات الصغيرة والتربة الصفراء الجميلة من حولها.
جمال القرية لم يكن يكدره شيء، فالجميع يعيشون حياتهم وكأنهم أسرة واحدة. نفرح عندما نعلم أن فرحا أقيم في قريتنا أو حولها، لأن الحفل يخص الجميع ويشارك فيه الجميع. كانت أوقات السعادة مشتركة بين الجميع، وكانت لحظات الألم عند وفاة أحد أو مرضه تدخل كل بيت وتعشعش فيه. الموت كان وما زال أقوى النوازل، بسبب هذا القرب الشديد بين الجميع. عندما يموت أي من أبناء القرية تجد الجميع وكأنهم أصحاب العزاء يحضرون ويغسلون ويصلون ويحفرون القبر ويدفنون الميت ويتقبلون العزاء جميعا في فقيدهم.
جف ذلك الجدول النابض بالحياة، دخلت حياة أهل القرية تغييرات لا تكاد تنتهي. كل سنة أحضر لأجد شيئا جديدا في القرية. أول ما دخل تاريخ قريتنا هو قدوم الكوريين، تلك الجيوش الجرارة التي جاءت لتدخل الكهرباء إلى القرية، الكثير من أهل القرية كان أول احتكاك لهم بالأجانب هو تعاملهم مع ذلك الجنس الذي يتشابه كل أبنائه، حتى تندر أحدهم بقوله عندما سأله ضابط الشرطة هل تعرف الشخص قال: لا أعرفه فكلهم يشبهون (بلوك بن مشيط) كناية عن التشابه الشديد.
أكمل الكوريون إيصال الكهرباء للمنطقة، لكنهم لم يكونوا ليخرجوا منها بتلك السهولة. كانت الأمطار - في تلك الأيام - أكثر غزارة والآبار تطفو مياهها، وهو ما جعل أحد هؤلاء يفكر في الاستثمار في الزراعة. وهذا ما حدث بالفعل. بدأ الكوريون بإدخال نباتات عجيبة كالملفوف والزهرة (القرنبيط)، واستثمروا في هذه الزراعة وحققوا نجاحات كبيرة. بعد فترة - شحت الأمطار وأنهكت التربة، فترك أغلبية الكوريين المنطقة واختفوا من تاريخها، لكنه كان موعد مع تغيير جديد تعلمه أبناء القرية من (الغزاة الصفر). فبدل أن تقتصر زراعتهم على الحبوب وبعض الفواكه التي تميز المنطقة، تحولوا نحو زراعة الخضار، فبدأت معارك الطماطم والكوسة والباذنجان والفاصوليا والفراولة. كان الناس يزرعون المنتجات نفسها في كل سنة وهو ما جعل الجميع يخسرون. لكنها طبيعة المزارع الذي لا يفقه في التجارة.
جاءت بعدها حمى الاصطياف والمتنزهات الوطنية التي أوجدت للبعض مجالات جديدة للكسب، فهناك من بنى الشقق، وغيرهم أصبح يعرض بضاعة مزرعته على المصطافين، وآخرون امتهنوا التراث وبدأوا في جمع كل شيء على أمل أن يسوقوه للمصطافين. ظهرت أخيرا فكرة بيع المنتجات التراثية، خصوصا المواد الغذائية كالخبز المصنوع في المنازل.
أعود كل سنة وقد نقص عدد سكان قريتنا، منهم من توجه للتعليم، ومنهم من حصل على وظيفة خارج القرية أو المنطقة حتى، ومنهم من يقرر أن حياة المدينة تناسبه أكثر فيهرب من حضن تلك التي كانت أرضه وسماءه، ومنهم من يغادر إلى الدار الآخرة. أتيت هذا العام وأنا أستعيد ذكريات والدتي التي وافاها الأجل بين صيفين رحمها الله.
لكن الحقيقة لا تزال أن هذه القرية تتغير كل عام حتى إن كان التغيير طفيفا، لكنها تتغير، فعندما انتقلنا إلى المسجد الجديد كانت لذلك فرحة لدى الجميع، وعندما تخلصنا من تلك الصخرة التي كانت تعيق مرور السيارت الداخلة إلى والخارجة من القرية كان يوما مميزا، رغم أنه دفع صغار السن للمزيد من السرعة. وعندما وصل الأسفلت إلى جميع المنازل علمنا أن القرية ستبقى تنبض بالحياة حتى لو تركها البعض. أما يوم بدأت الشركة الصينية في بناء جامعة الملك خالد بالقرب من قريتنا، عندها تأكدنا أن القرية ستكبر ويعظم شأنها.
قريتي من دون مركز رعاية صحية أولية ومن دون مدارس، لكن هذا التغيير قد يكون ميزة لعام جديد. التغيير الذي يتمناه الجميع هو إيصال المياه إلى كل بيوت القرية، بدل عناء الكروت والوقوف في صفوف الانتظار للحصول على صهريج ماء. أعلم أن مخططا في مكان ما رسم مسار الصرف الصحي لقريتي، وبدأ التنفيذ. لكنني أستغرب كيف يصل الصرف الصحي قبل وصول الماء؟ لا تزال قريتي جميلة رغم كل ذلك، وما زلت أحس بحاجتي إلى هوائها العليل وأمطارها الغزيرة وضبابها الذي يلف كل شيء.