ترتيب السعودية في مؤشر الشفافية
صدر قبل نحو أسبوع التقرير السنوي لمدركات الفساد في دول العالم لعام 2012 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية. وهي منظمة دولية مستقلة من منظمات المجتمع المدني تنشر هذا المؤشر المركب المبني على 13 استطلاعا ومصدراً مختلفاً ويعتمد على الدراسات والمسوحات الاستقصائية المتخصصة. وصاحبت هذه النتائج تصريحات سابقة للبنك الدولي تشير إلى أن حجم الفساد المالي العالمي يصل إلى 1.6 تريليون دولار سنوياً، والمحزن أن ثلثه في الوطن العربي، ونصفه في العالم الإسلامي، وهذا الفساد ينحصر فقط في القطاع العام، فكيف لو تحدث التقرير عن أنواع الفساد الأخرى كالإدارية، والسياسية، والاجتماعية، والتعسف في استغلال السلطة، وتعطيل مصالح الناس.
وفور إعلان نتائج المؤشر لهذا العام 2012 بادرت بعض الدول القابعة في ذيل القائمة بالاعتراض والرفض والتشكيك في مصداقية هذا المؤشر، وأنه مقياس يقيس مدركات الفساد لا الفساد نفسه. وكان على رأسها بطبيعة الحال دول عربية تقبع في القاع. علماً بأن المنظمة الدولية تدرك كما يدرك المختصون والمعترضون أن وجود مقياس كمي دقيق لمستوى الفساد الدولي يمكن تطبيقه والاعتماد على نتائجه أمر أشبه بالمستحيل. كما أن "الإدراك" مقياس معتبر في كثير من الدراسات العلمية الرصينة.
وفي قراءة لمراتب السعودية في هذا المؤشر الدولي منذ عام 2003 حتى عام 2012 يلاحظ أولاً أن ترتيب السعودية في هذا المؤشر انخفض عن العام الماضي تسع مراتب، منحدراً من المرتبة 57 عام 2011م إلى 66 عام 2012. وهذا التغيير ربما يعزى إلى تحسن مستوى الدول الأخرى في مناهضة الفساد، حيث لم يتغير المعدل ذاته وبقي عند 4.4 من 10، لكن مواكبتنا للجهود الدولية في هذا الشأن هي التي لم تتحسن ولم تتقدم رغم وجود هيئة خاصة لمحاربة الفساد. ويلاحظ أيضاً أن السعودية مرت بفترات تذبذب خلال السنين الماضية، ففي حين كان المؤشر عام 2003 عند 4.5، أي أنه ثاني أعلى مؤشر وصلت إليه، إلا أنه انخفض في السنوات التي تليها بشكل ملحوظ ليستقر ولمدة خمس سنوات عند مستوى يراوح بين 3.3 و3.5، ولم يتحسن إلا في عام 2009 - 2010 بعد أن أجرت السعودية تدابير تشريعية جادة لمناهضة الفساد توجت بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، إلا أنه انخفض بعد ذلك في السنوات التي تلتها لتعكس القصور الواضح في مواجهة هذه الظاهرة.
ولكي أستوعب هذه النتيجة المحبطة التي لا تتناسب مع مكانة هذه الدولة قيماً وأخلاقاً ولا ترقى إلى الطموح المتوقع لها راجعت أكثر من 30 دراسة دولية لبحث أسباب ظاهرة الفساد. وازدت حيرة في تناقض الأرقام المحلية في المؤشرات الاقتصادية العالمية. فالدراسات التي طبقت على شريحة واسعة من البلدان تؤكد وجود أدلة اقتصادية إحصائية على أن نسبة إجمالي الاستثمار المحلي ستزيد بمعدل كبير عندما ينخفض مقياس الفساد. فعلى سبيل المثال لو استطاعت الفلبين تحسين مستوى محاربة الفساد من 2.4 درجة إلى مستوى سنغافورة 9.2 درجة لأدى ذلك إلى ارتفاع إجمالي الاستثمار على الناتج المحلي بمعدل يصل إلى 6.6 في المائة، وهو معدل كبير في الاستثمارات. وكذلك الحال بالنسبة للعلاقة الاقتصادية بين جذب الاستثمارات الأجنبية والنمو الاقتصادي من جهة ومؤشر الفساد من جهة أخرى، لكن تطبيق هذه الفرضيات يصعب تحقيقه في بيئتنا المحلية المختلفة، فعلى سبيل المثال تقضي هذه الفرضيات الاقتصادية بأن العلاقة بين مستوى التنافسية الدولية للبلد والفساد علاقة عكسية، فكلما نقص الفساد زادت تنافسية الدولة، وهو ما يؤكده مؤشر التنافسية، لكن واقع السعودية أنها تحقق مركزاً متقدماً في مؤشر التنافسية الدولية وتتأخر - في الوقت ذاته - في مؤشر الشفافية الدولية. وهذه نتيجة غير منضبطة، فإما أن تكون مؤشرات الشفافية الدولية غير دقيقة، أو أن مؤشرات التنافسية الدولية لا تعكس الواقع الذي وصلت إليه الدولة.
كما أن مجمل الدراسات يشير إلى أن أسباب الفساد الإداري تعود إلى أسباب قانونية، أو أسباب اقتصادية، أو أسباب ثقافية، أو أسباب اجتماعية. وعند تشخيص الحال في بيئتنا المحلية نجد أن ترتيب السعودية يأتي متأخراً جداً مقارنة بدول مجاورة كقطر والإمارت المصنفتين في المرتبة 27، في حين أن الظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية متشابهة جداً. فإذا تشابهنا سياسياً واقتصادياً وثقافياً مع دول حققت مواقع متقدمة، فأين يكمن موقع الفجوة والخلل؟ ومن أين يجب أن نبدأ لمعالجة الفساد؟ وما أولويات استراتيجية مناهضة الفساد؟ فالمطلوب من هيئة مكافحة الفساد ليس محاربة مظاهر الفساد وحدها، لكن وضع برنامجها العملي لمحاربة أسباب نشوئه ليكون العلاج أنجع وأحكم وأكثر استدامة. وأسهل ما يمكن التحدث عنه هو الأسباب القانونية وغياب بعض التشريعات التنظيمية المناهضة للفساد. كما أن الأسباب الثقافية بما نملكه من قيم ومبادئ وأخلاق إسلامية سامية تجعل العودة إلى الأصول والقيم أمراً قريب المنال. إذن تبقى أسباب أخرى تعد مغذياً كبيراً للفساد في شتى أشكاله ومظاهره هي التي تحتاج إلى التفاتة وأولوية.
إن الدراسات التي ناقشت نشوء أسباب الفساد في الدول الغنية ذات الاقتصادات النامية استثنت كثيراً من الأسباب الاقتصادية والسياسية حتى إنها لم تجد علاقة بين الديمقراطية والفساد وبين التقدم التكنولوجي والفساد، وتمحورت في مجملها حول الأسباب الاجتماعية بالدرجة الأولى كالعدالة الاجتماعية والكفاءة وتوزيع الدخل.
والفجوات في هذا المحور الاجتماعي كثيرة، فليس من المتوقع أن يحقق الاقتصاد الكلي أرقاماً قياسية في الفوائض المالية والنمو ليجعله من أكبر 20 اقتصادا في العالم، في حين تتنامى في الوقت ذاته معدلات البطالة، وغلاء المعيشة. كما لا يتصور أن يزيد الإنفاق الحكومي على المشروعات الجبارة دون أن ينعكس ذلك الإنفاق على مجمل العاملين في تلك المجالات. كما لا تتناسب زيادة النمو الاقتصادي الكبير مع انخفاض في دخول عامة الأفراد. وعند اتساع فجوة هذا المحور، ترى الفرد يزداد اضطراباً عندما لا يملك مسكناً أو يحصل على أرض وهو يسمع ويرى بعض من حوله يفاخرون بمقاطعات من الأراضي يمكن أن تقوم على مساحاتها مدن كبرى. كما قد يصاب بكثير من اليأس والقنوط عندما تتناقل وسائل الإعلام أن أغنى أغنياء العرب يسكنون في محيط مدينته أو حيه دون أن يجد هو ما يمكنه من الوفاء بمتطلبات الحياة الكريمة. كما قد يشعر بالضيم وهو يقضي سنواته متفوقاً فاعلا ثم يستأثر زميله بالوظيفة التي لم يكن يملك من المهارات والمعارف المطلوبة لها سوى علاقات القربى والمصالح المشتركة.
وأخيراً.. فإن الانفتاح المعلوماتي على المنظمات الدولية والتعاون معها والمشاركة في التمثيل الدولي الوظيفي فيها وتسهيل عمل مكاتبها أمر في غاية الأهمية، بل قد يكون أحد الأسباب المفسرة للنتائج المتقدمة لبعض الدول المجاورة. كما أنه من المعلوم أن حجب المعلومة وإخفاءها وعدم دقتها ضرب من الفساد ذاته، ولن نتقدم خطوة دون المكاشفة الحقيقية المتجردة.