زيارة الشيخين هل تكون فتحاً لرعاية تاريخنا وآثارنا؟

زيارة الشيخين عبد الله المطلق وعبد الله المنيع لمدائن صالح أخيرا، حدث استثنائي لا يمكن أن يمر دون أن يثير زوبعة من الأسئلة والتعليقات؛ فقد كان كثير من المواطنين والمقيمين والزائرين يمتنعون عن زيارة هذا الموقع التاريخي العالمي لسبب شرعي وحيد، وهو أن هناك نهيا عن زيارة المدائن، مع أن الموقع وحسب الروايات التاريخية مر عليه أكثر من حضارة ويُعرَف بكونه مساكن ومقابر لأمم أخرى من الكلدانيين وغيرهم، ولن أدخل في جدل حول سلامة الرأي الشرعي من عدمه، ومبررات كل طرف نحو النهي أو الإباحة، لكن زيارة الشيخين في رأيي تفتح الباب على مصراعيه وتشجع على السياحة التاريخية، وليس هنا حدث مر على جزيرة العرب أبرز وأهم من تاريخ الرسالة والبعثة المحمدية.
يستهويني التاريخ وتجذبني الأماكن العتيقة في كل بلد أزوره، حتى لو كان ذلك التاريخ غائباً عن ذاكرتي أو معرفتي ومعلوماتي، لكني أشم رائحة الأصالة والعبرة والقصص والروايات في كل بقعة وعلى كل أثر تراه عيناي.
مع كل ذلك فلا أجد أكثر متعة من زيارة الأماكن التي مر عليها سيد ولد آدم، عليه السلام، وصحبه الكرام، وعلى رأس هذه الأماكن مرقده الشريف في المدينة المنورة، ومواقع أخرى أشار إليها كثير من الأحاديث الشريفة الصحيحة، منها لا تزال كما كان حتى يومنا هذا، ومنها ما اندثر بسبب المدنية التي دمرت التاريخ والجغرافيا في مكة والمدينة.
كلما زرت المدينة، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، أحرص على زيارة تلك المواقع أو بعض منها، ففيها رائحة الجنة، وفي ذاكرتها أكرم البشر، وفي بقعها تاريخ لا ينفك من علاقة المسلم بذلك الجيل الذي عجزت البشرية على أن تستنسخ مثلهم، وفي كل موقع تزوره يطوف بخاطرك ذكرى من زاره وكيف عمل فيه وماذا قيل حوله، ثم تستقي العبرة من كل ذلك؛ هم قوم أحببناهم، بل تعبَدنا الله بحبهم، وذكرناهم؛ فنسأل الله أن يجازينا أجر ذكراهم.
وفي كل مرة أقف على تلك الشواهد من التاريخ العظيم لأمتنا، أجد نفسي منكسرة خجلاً مما تم العبث به، ووجلة من فعل بعض السفهاء بالكتابة والتشويه لهذه المواقع، ومتألمة من عدم الاهتمام بها، كان آخر تلك الأفعال المشينة هو سد الشق في جبل أحد (بمادة الأسمنت) من بعض العابثين، وهو الموقع الذي احتمى فيه رسول الأمة عظيمها - صلى الله عليه وسلم ـــ وصحبه الكرام، في يوم عظيم من أيام الله وهو يوم أحد، وقال قولته العظيمة التي تدرس في أبواب العقيدة وهو يتحاور مع رأس المشركين آنذاك وزعيمهم أبو سفيان ـــ رضي الله عنه ـــ الذي أسلم لاحقاً.
تلك الآثار تذكرنا بأعظم حضارة وأسمى رسالة، بل تنبهنا إلى سيرة سيد البشر وصحبه الكرام، بل فيها من العبر والدروس ما يجب أن يُدرّس في السيرة والعقيدة والفقه والتاريخ، ولا أبالغ إن قلت إن الدروس أوقع وأكثر تأثيراً حين تكون في تلك المواقع وليس في قاعات الدراسة في الجامعات.
قد يأتي من يخطئ، وقد يكون هناك من يتأول، وقد نشاهد من يتبرك، ولكن السؤال هل إزالة تلك الآثار هو الحل؟ إذا كانت الإزالة هي الحل؛ فلماذا لم تتم إزالتها من قبل القرون المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم؟
الإزالة لتلك الآثار وطمسها، هي مسح لتاريخنا وتشويه لواقعنا وثقافتنا، والطمس والإزالة هي حيلة العاجز، وإلا فالتوجيه والتوعية والتعليم هي الحل الأمثل لمن لا يعلم.
في رأيي، أننا لم نتعامل قط بإيجابية مع أي آثار نبوية في أي موقع في الجزيرة، تعاملنا السلبي كان تعاملاً طاغياً مع الأسف، بينما كان بإمكاننا لو أحسنّا التعامل مع تلك الآثار أن نحقق التعليم والوعي في العقيدة والتاريخ والسيرة لما يزيد على عشرة ملايين زائر ومعتمر لبلادنا سنوياً (هذا على افتراض ثبات أعداد الزائرين والمعتمرين)، وبالتالي سنصبح أكبر مدرسة تُدرس التاريخ والعقيدة والسيرة على أرض الواقع، تلك الملايين لن تعود إلى بلادها محققة أهدافها الدينية فقط، بل ستحقق مكاسب عقدية وتاريخية وثقافية قد تغير حياتها للأبد، ومثل ذلك بالتأكيد سيغير الصورة الذهنية للزائرين عن المملكة إيجابياً.
إضافة إلى تلك النتائج الإيجابية، سيتحقق من وراء ذلك مكاسب اقتصادية كبيرة جداً، كما سيتحقق من وراء ذلك توظيف ضخم للسعوديين، حيث من المعلوم أن الأنشطة السياحية وما يرتبط بها تعتبر الموظِف الأكبر للعمالة المحلية.
ميزة تلك المزارات والمواقع التاريخية والنبوية أنها تحظى بتعاطف كبير من الناس، وبالتالي فيمكن أن ينفق عليها الأفراد والشركات، تبرعاً من أنفسهم، أو تحملاً لمسؤوليتهم المجتمعية، أو إنفاقاً لوجه الله في حماية وإبراز الآثار النبوية المباركة.
أقترح على هيئة السياحة، وهي تبذل حالياً ما تستطيع، أن تقوم بجهود مضاعفة ليس لحماية الآثار النبوية فقط وإنما لتحويلها إلى مزارات سياحية، وأن تتعاون مع وزارة الشؤون الإسلامية لتتولى الجوانب الدعوية والعقدية والسيرة والتاريخ.
أختم بقصة حدثت مع الأخ العزيز خالد بن سلّيم، المدير العام لدائرة السياحة في دبي في ديوانيته العامرة قبل سنوات، في نقاش هادئ حول جهود السياحة في الإمارات والسعودية، حيث قال إننا نعمل ليل نهار لنقنع الناس من جميع أنحاء العالم بزيارة إمارتنا الصغيرة، ثم نبذل جهوداً مضنية لنقنعهم مرة أخرى بصرف أكبر مبلغ ممكن، أما أنتم في المملكة فإن الناس يأتون تلهفاً بدعوة أبينا إبراهيم، عليه السلام، فكل حديث في السيرة وكل قصة في تاريخ الرسالة تمثل دعاية مجانية لزيارة المملكة، والأهم من ذلك أن الناس يتعبدون ربهم بكثرة إنفاقهم في هذه الزيارة!
وتعليقي هنا هو ''إننا، مع الأسف لم نحسن استثمار هذه الدعاية نهائياً''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي