الموناليزا .. درس في الكراهية
قبل نحو شهر بثت وسائل الإعلام خبرا عن عثور علماء الآثار في نيسان (أبريل) الماضي على هيكلين عظميين في الطابق السفلي لدير سانت أورسانو في فلورنسا يعتقد أن أحدهما لـ ''ليزا جرالديني'' (الجيوكوندا نسبة إلى زوجها القاضي فرانشيسكو جيوكندا)، تلك السيدة التي رسمها الفنان الأشهر في عصر النهضة في القرن الخامس عشر ليوناردو دافينشي وعرفت باسم ''الموناليزا''، آملين أن يقودهم تحليل الـ DNA إلى سر تلك السيدة وابتسامتها التي حيرت العالم طوال قرون، وأصبحت على مدى التاريخ أيقونة الفن التشكيلي حتى أن معظم الفنانين من مختلف العصور والمدارس قلدوها وملأت نسخها بيوت العالم، ودارت حولها حكايات وأساطير، وتعرضت للسرقة عام 1911، وهي اليوم في بهو خاص بها في متحف اللوفر في باريس محروسة بعيون إلكترونية وبشرية يزورها مئات المعجبين يوميا.
لقد حاول الكثيرون من عشاق الفن ونقاده تعليل سر ابتسامتها الغامضة.. هل كانت سخرية، كآبة، خجلا، أو لدعابة، أو مفتعلة أخفت وراءها ما أخفت؟ أم أرادها دافينشي تعبيرا مكثفا عن مخاوفه وآماله من مولد عصر النهضة، خصوصا وهي تمثل مولد أول ابتسامة في التاريخ ظهرت في بورتريه، كما أربكت نظراتها الكل فقيل إن فيها براءة الطفولة وقيل شموخ الأنوثة وقيل توجسا وشيئا من الخبث.. ما يعني تعذر تحديد دلالة معينة لها، لكنها أبدا تحدق بك، إن نظرت إليها من الأمام، اليمين، الشمال، أعلى، أسفل أو من أي زاوية فإنها لا تعتقك من نظراتها.. كأنما أراد دافينشي القول: تلك هي الحياة تترصدنا بأقدارها حيث نذهب. أما وضعية يديها المتقاطعتين أعلى البطن برقة وحذر فلعل دافينشي شاء أن يوهمنا بتلقائيتها وعفويتها، أو بالكبرياء والرفعة، أو الإحساس بحالتها النفسية حيال جزعها الشديد على جنين حملته ثم مات، فقد قيل.. إن زوجها هو من طلب من دافينشي رسم صورة لها لعلها تسلى.. وأنها بعدما أمضت عاما وهي ترتاد مرسم دافينشي عاد زوجها يسأله: هل انتهت اللوحة؟ فقال له دافينشي: الآن بدأت.. وقضى بعدها ثلاثة أعوام حتى أتمها! لكن .. ما علاقة كل ما سبق بالكراهية؟
لقد أعادني خبر مقبرة أسرة الجيوكندا إلى ذكرى حديث قديم جرى في مكتب شؤون الطلبة في الجامعة في أمريكا.. كانت المسؤولة سيدة تزحف نحو الخمسين، ودار حديث حول الفن.. ذكر أحدهم لوحة الموناليزا مبديا إعجابه الشديد بها .. وفجأة تغيرت ملامح وجه تلك السيدة ثم قالت وهي توجه حديثها لصاحبنا: ''حسنا.. حسنا.. إنني أقدر إعجابك بها ومثلك كثيرون، لكنني أكرهها.. أكرهها''، وصدمني وغيري هذا الرأي لكن ذلك الحديث ضاع في لجة السنين إلى أن استدرجه الخبر ووجدتني عالقا بالسؤال: لماذا كانت تلك السيدة تكره لوحة الموناليزا؟
في غمرة البحث عن السبب تذكرت ما كانت تقوله لي زوجتي عن تعليلات وتشخيصات إخصائيي الاتجاهات الجديدة في التنمية البشرية والطاقة، الذين كانت مغرمة بطروحاتهم ونبهتني إليهم أمثال واين داير، ديباك تشابرا، لويزهاي، ستيفن كوفي، صلاح الراشد وإبراهيم الفقي .. إنهم يقولون أشياء كثيرة مبهرة، منها على سبيل المثال تأكيدهم على أن ما نكرهه في الآخرين هو في حقيقة الأمر، موجود فينا جزئيا أو كليا.. فإن كنت تكره في أحد طريقته في الكلام، في الضحك، في اللباس، في الشكل، في أي من الحركات أو السكنات، فتأكد أن ما تكرهه أو تنفر منه هو موجود فيك لكنك تتستر عليه بالهروب منه بإسقاطه عليه!
لم تكن الموناليزا – التي سحرت الدنيا - جميلة أو فاتنة.. بل لقد قيل إنها رجل، وقيل إنها دافينشي نفسه أخفى هيأته فيها .. حتى أن الرسام الفرنسي الشهير مارسيل دوشامب في بداية القرن الماضي رسمها بشنب، ولم يكن حدسه ببعيد، ففي عام 1987 قامت ليليان شوورتز، خبيرة الصور والرسوم في مختبر بيل، بسلسلة من القياسات العلمية المفصلة قارنت فيها حاسوبيا بين صورة رسمها دافينشي لنفسه وهو كهل وصورة الموناليزا فاكتشفت اكتشافا صارخا هز عالم الفن .. لقد تطابقت الصورتان.. الداهية دافينشي جعل من نفسه نموذجا للموناليزا .. وربما يفسر هذا سر حرص دافينشي على لوحة الموناليزا بالذات، فقد قيل إنه كان يحملها معه أينما ذهب .. لعله كان لا يطيق فراق نفسه فيها!
أما لماذا كانت الموناليزا تثير كراهية تلك السيدة الأمريكية؟ ولماذا عبرت بحدة عن اشمئزازها ونفورها منها .. وبأنها كانت تطوي صفحة أي كتاب تراها فيه وتشيح بسرعة بصرها بعيدا عنها حيثما تراها معلقة؟ فجوابه ما قاله بالضبط إخصائيو الاتجاهات الجديدة في التنمية البشرية والطاقة.. كيف؟
لقد كانت ملامح وجه تلك السيدة الأمريكية قريبة الشبه جدا بوجه الموناليزا .. كانت تلك السيدة ــــ إذا ــــ تهرب لا شعوريا من رؤية نفسها .. تنكر أن تكون تشبهها .. وكانت بالطبع تريدنا أن نجاريها في ذلك .. فهل عرفت عزيزي القارئ لماذا نكره؟