ما خطب الاقتصادات المتقدمة؟

تُرى هل يُعَد النمو البطيء في الاقتصادات المتقدمة اليوم استمراراً لانحدار مادي طويل الأمد، أم أنه يعكس النتائج الطبيعية لأزمة مالية جهازية عميقة؟ والأمر الأكثر أهمية، هل ينبغي لنا أن نجيب عن هذا التساؤل بشكل قاطع من أجل تعزيز وتيرة التعافي الاقتصادي؟
في مؤتمر لصندوق النقد الدولي عُقِد أخيرا، زعم وزير الخزانة الأمريكي السابق لورانس سامرز أن محنة النمو اليوم عميقة الجذور وترجع إلى ما قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية. وركز سامرز بشكل خاص على الحاجة إلى المزيد من الاستثمار في البنية الأساسية، وهو رأي يتبناه أغلب خبراء الاقتصاد بإخلاص، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالاستثمار الإنتاجي الحقيقي.
ومن المؤكد أن آخرين أيضاً يشعرون بالانزعاج والقلق إزاء الانحدار المادي، ولو أن أغلبهم أكدوا على جانب العرض بدلاً من جانب الطلب. على سبيل المثال زعم الخبير الاقتصادي جيفري ساكس أن اقتصاد الولايات المتحدة يحتاج إلى مواجهة عدد كبير من العقبات البنيوية التي تحول دون تعزيز النمو، بما في ذلك انتقال الشركات إلى الخارج، وعدم توافق المهارات، والبنية الأساسية المتهالكة.
والواقع أن فرضية جوردون وكاسباروف وثيل مثيرة للاهتمام الشديد، برغم أنني اعترضت على استنتاجاتهم السلبية، سواء كتابة أو في مناقشة دارت في أكسفورد. وفي اعتقادي الشخصي أن الخطر الأعظم يتلخص في أن وتيرة التقدم التكنولوجي سوف تتسارع إلى الحد الذي تعجز معه المجتمعات عن التكيف، ولو أن التجربة كانت في الأساس إيجابية حتى الآن.
لا شك أن الاقتصادات المتقدمة اليوم تحتاج بشكل عاجل إلى معالجة أشكال القصور التكنولوجي والاجتماعي والسياسي كافة. ومع ذلك فإن النمو الأقل من المتوسط على مدى نصف العقد الماضي لا يزال يحمل البصمات النمطية كافة التي تميز التعافي البطيء من أزمة مالية جهازية عميقة كما وثقت أنا وكارمن راينهارت في كتابنا "هذه المرة مختلفة" الذي نشر في عام 2009.
بطبيعة الحال، يشكل الإصلاح البنيوي ضرورة أساسية بعد أي أزمة مالية، وكذلك السياسات الرامية إلى الحفاظ على الطلب الكلي إلى أن يتعافى الاقتصاد. وفي اعتقادي أن فشل السياسة الاقتصادية الأكبر في مرحلة ما بعد عام 2008 كان يتألف من عجز الحكومة عن إيجاد سبل إبداعية لخفض الديون غير القابلة للاستمرار، على سبيل المثال في أسواق الرهن العقاري في الولايات المتحدة وفي البلدان الواقعة على أطراف أوروبا. وهذا يتضمن الفشل في إصدار الدين العام عند الضرورة لتسهيل إعادة الهيكلة، خاصة إذا كان من الممكن خفض الديون الإجمالية للاقتصاد بالكامل (أو في منطقة اليورو بالكامل) في العملية نفسها.
ولكن من المؤكد أن سامرز محق في أن الاستثمار في البنية الأساسية الإنتاجية يمثل العائد السريع. وبطبيعة الحال، لابد أن تهتم الحكومات بالمسار الطويل الأجل للديون العامة، برغم كل الهراء الجدالي والمشحون سياسياً الذي يزعم عكس ذلك. ولكن الاستثمار في البنية الأساسية الإنتاجية الذي يولد النمو الطويل الأجل يغطي تكاليفه ذاتيا، لذا فلا يوجد أي تعارض بالضرورة بين تثبيت الاستقرار في الأجل القصير والمخاطر التي تهدد استدامة الديون في الأمد البعيد. وفي ظل أسعار الفائدة المنخفضة للغاية ومعدلات البطالة المرتفعة اليوم فإن الاستثمارات العامة رخيصة وهناك وفرة من المشاريع التي تقدم عائدات مرتفعة: إصلاح الجسور والطرق، وتحديث شبكات الكهرباء التي عفىَّ عليها الزمن، وتحسين شبكات النقل الجماعي، على سبيل المثال لا الحصر.
في فترة ولايته الأولى في المنصب، اقترح الرئيس الأمريكي باراك أوباما إنشاء بنك لمشاريع البنية الأساسية للمساعدة على تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص. ولا تزال هذه الفكرة جيدة، خاصة إذا استعان البنك بهيئة عاملين مهنية للمساعدة على توجيه الاختيار العام فيما يتصل بالتكاليف والفوائد (بما في ذلك التكاليف والفوائد البيئية). وحتى إذا كانت مضاعفات جون ماينارد كينز حقاً على الطرف العلوي من الإجماع، فإن تعبئة رأس المال الخاص لتمويل الاستثمار تتمتع بأغلب مزايا إصدار الدين العام.
وقد اقترح بعض المعلقين أن السبب الجذري وراء الانحدار المادي، فضلاً عن التفسير الرئيسي لأسعار الفائدة المنخفضة للغاية، هو انخفاض معدل الخصوبة في مختلف بلدان العالم المتقدم. وإذا صح هذا، فإن الحجة الداعمة لأي نوع من الاستثمار العام أو الخاص تصبح أكثر اختلاطا؛ فلابد أن يكون هناك عمل لاستخدام رأس المال. ولكن أظن أن الأسباب وراء تباطؤ النمو وانخفاض أسعار الفائدة اليوم ترجع إلى ما هو أبعد من معدلات الخصوبة المنخفضة، وفي هذه الحالة لا ينبغي لهذا أن يشكل عقبة.
والنقطة المهمة هنا هي أن الحجة الداعمة لتوسيع الاستثمار في البنية الأساسية الإنتاجية لا تستند إلى وجهة نظر أيديولوجية أو نظرية اقتصادية ضيقة. وسواء كان سامرز محقاً حول الركود المادي في الاقتصادات المتقدمة، أو كنا لا نزال نعاني في الأساس آثار الأزمة المالية، فإن الوقت قد حان لكسر الجمود السياسي واستعادة النمو.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي